سارية.. وعَلَم.. وعشر أفكار! - تليجراف الخليج

0 تعليق ارسل طباعة

نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: سارية.. وعَلَم.. وعشر أفكار! - تليجراف الخليج اليوم الأربعاء الموافق 3 سبتمبر 2025 11:14 مساءً

 

 

بمجرد أن سمعتُ بخبر صدور تعليمات تُلزم أصحاب العقارات في الأردن بتثبيت "سارية عَلَم" أمام عقاراتهم أو فوق سطحها تحت طائلة المسؤوليّة.. سرعان ما بدأتْ الأفكار والصور والخيالات تتداعى في خاطري تداعيّاً حُرّاً وبطريقة لا إراديّة!

سابدأ بالفكرة الثالثة، وسأترك الفكرتين الأولى والثانية للنهاية.

الفكرة الثالثة: ماذا لو حوّل الأردنيّون "التحدّي إلى فرصة"؟ أليستْ هذه العبارة التي يطيب لأصحاب القرار التشدّق بها أو الاختباء خلفها كلما استهمّوا بـ "إبهارنا" بسياسات وقرارات جديدة؟

ماذا لو تعامل الأردنيّون مع السارية التي ستكون موجودةً موجودةً بكلّ الأحوال باعتبارها منبراً آخر من منابر حريّة الرأي والتعبير.. منبراً قريباً وفي متناول اليد.. منبراً يتحكّمون هم به ولا يتحكّم هو بهم.. منبراً غير "السوشال ميديا" وما يعتريها من تشهير" أو وسائل الإعلام التقليديّة وما يعتريها من "تعهير"؟!

مثلاً، كلّ قاطن في العقار لديه شكوى أو مَظْلَمة ما، وأعيته محاولة إيصال صوته وتحصيل حقّه، يقوم بخفض عَلَم السارية بمقدار يتناسب مع حجم المظلمة التي لديه، أو يقوم برفع راية سوداء صغيرة أسفل عَلَم السارية، أو أي صيغة أخرى يمكن أن يتفتق عنها ذكاء الناس الجمعيّ.

وطبعاً ولاة الأمر وعسسهم، والذين يطوفون علينا ليل نهار كما كان عمر بن الخطاب يطوف على رعيته للاطمئنان على أحوالهم وسلامتهم، وبمجرد أن يروا عَلَماً قد خُفّض أو رايةً سوداء قد رُفعت، يعلمون أنّ هناك مظلمةً ما في هذا العقار، ويهرعون فوراً لتحديد صاحب هذه المظلمة، والاستماع إلى شكواه، وردّ حقوقه إليه بصورة سريعة وناجزة.

الفكرة الرابعة: ماذا لو فكّر البعض بالذهاب بالفكرة أعلاه إلى أبعد من ذلك، وعدم الاقتصار على المظالم والشكاوى، واستغلال الساريّة كوسيلة أخرى للتعبير عن المواقف والآراء السياسيّة؟!

مثلاً ماذا لو استيقظنا صباحاً لنجد جميع الأردنيّين وقد رفعوا عَلَم المقاومة للتعبير عن تأييدهم لها، ووقوفهم إلى جانبها، ورفضهم لحرب الإبادة والتهجير المُننهجة التي يشنّها الكيان الصهيونيّ الغاصب.. هكذا من دون مظاهرات تغلق الشوارع وتقلق الراحة، ومن دون إضرابات تعرقل عجلة الإنتاج والاقتصاد الوطنيّ؟!

هل ستتعامل السلطات مع هذه الحركة كضرب من الخيانة والتمرّد وتنفيذ "أجندات خارجيّة"، أم ستستقبل الأمر بصدر رحب وتعتبره وسيلة حضاريّة أخرى من وسائل "الاحتجاج السلميّ" الذي طالما حضّت عليه؟!

ولنفترض أنّ الأمر قد فُسّر على أنّه خيانة وتمرّد، ماذا ستفعل السلطات؟ هل ستعاقب الشعب كلّه؟ كيف ستكون العقوبة؟ ستسجنهم جميعاً؟ ستفرض عليهم جميعاً "الإقامة الجبريّة"؟ ستوقّعهم على "تعهّدات" و"كفالات عدليّة" فلكيّة؟ ستحرمهم من شهادات "حسن السلوك"؟ ستضع أساور إلكترونيّة في أرجلهم؟ ستجمّد حساباتهم على تطبيق "سند" أو تجمد "آيباناتهم" البنكيّة؟ ستفرض عليهم عقوبات مجتمعيّة بديلة (جمع القمامة ودهان الأرصفة وتلميع السواري مثلاً)؟!

الفكرة الخامسة: ماذا لو حاول البعض تحويل سارية العَلَم إلى أداة للنفاق والتزلّف و"المزايدة" على الآخرين؟

التعليمات تُلزم أصحاب العقارات بمواصفات معيّنة للسواري لا يجب النزول تحتها، ولكن ماذا لو قرّر أحدهم أن "يُعلّي" على هذه المواصفات؟

سارية أطول من الارتفاع الإلزاميّ المطلوب.. سارية بقُطْر أعرض.. سارية مطليّة بالذهب.. تاجيّة مرصّعة بأحجار كريمة.. عَلَم أكبر.. عَلَم مغزول من الحرير ومقصّب بشراشيب من الذهب والفضّة.. الخ؟!

أو بدلاً من السارية الواحدة الإلزاميّة يقرّر أحدهم "رشم" واجهة عقاره أو سطحه بالسواري والأعلام؟

هل ستسمح السلطات بذلك؟ هل ستسمح بإطلاق مثل هذه المُنافسة المَرَضيّة؟ هل ستسمح بأن يكون التعبير عن "الولاء والانتماء" رهناً بملاءة الشخص الماليّة؟ هل ستسمح بأن تكون هناك تراتبيّة وطبقيّة في السواري والأعلام؟!

الفكرة السادسة: كامتداد لفكرة النفاق والتزلّف، هل يمكن أن يطال ذلك دولاً وأنظمةً أخرى؟!

مثلاً شخص يعمل في الخليج أو يطمع بالعمل هناك، وقام برفع عَلَم دولة خليجيّة على السارية جوار عَلَم الأردن أو تحته متذرّعاً بحبّه لهذه الدولة، وعرفانه لها، وروابط الأخوّة المتينة التي تربط نظام هذه الدولة بالنظام الأردنيّ وشعبها بالشعب الأردنيّ.. هل سيكون هذا مقبولاً؟!

إذا لم يكن مقبولاً، وقامت السلطات بإنزال العَلَم الثاني، ألن يعكّر هذا صفو العلاقات مع دولة شقيقة (أو صديقة)؟!

وإذا كان مقبولاً، هل يسري هذا على جميع الدول الشقيقة بلا استثناء؟!

تركيا وإيران مثلاً هما دولتان إسلاميّتان شقيقتان، وليس بيننا وبينهما حالة حرب معلنة أو عداوة صريحة.. هل يمكن رفع رايتيهما على السارية جوار العَلَم الأردنيّ أسوة بغيرهما من الدول؟!

الفكرة السابعة: دعونا من الشأن الخارجيّ ولنقتصر على الشأن الداخليّ؛ ماذا لو قرّر صاحب عقار رفع راية عشيرته على السارية جوار العَلَم الأردنيّ؟

سبق لي وأن شاهدتُ مظاهرات وتجمّعات داخل حرم جامعات رسميّة تحمل عنواناً عشائريّاً، رفع خلالها المشاركون رايةً خاصة بعشيرتهم، وهتفوا هتافات تمجّد عشيرتهم حصراً.. دون أن يرى "المسؤولون" في ذلك غضاضة، ودون أن يحرّك الأمن الجامعيّ أو عمادات شؤون الطلبة أو الرئاسات ساكناً (بعكس استنفارهم في مواقف أخرى)، ودون أن يروا في ذلك انحرافاً عن العمليّة التعليميّة، أو حرْفاً للحياة الجامعيّة، أو انحيازاً لهويّات وانتماءات فرعيّة على حساب الانتماء الوطنيّ الأكبر والهويّة الوطنيّة الجامعة؟!

الفكرة الثامنة: ماذا لو تبيّن بعد التطبيق أنّ السواري والأعلام تتعرض لتخريب أو تشويه أو عبث؟!

هل سيتم تعديل التعليمات بحيث تُلزم المُكلّفين أيضاً بتثبيت كاميرا مراقبة لكلّ سارية؟!

أم سيتم استحداث خدمة جديدة اسمها "حارس سارية" بطريقة تذكّر بـ "الصبّة الخضرا"؟ ومَن سيقوم بتقديم هذه الخدمة: أفراد.. عمّال وافدون يحملون تصاريح عمل سارية.. شركات "أمن وحمايّة" مرخّصة؟!

وماذا لو أراد أحدهم "التأمين" على سارية عقاره؟! هل ستكون له حريّة اختيار شركة التأمين التي يريدها أم بالدور؟! وهل سيكون التأمين "شاملاً" أم "ضدّ الغير"؟!

وفي حال تمّ الاعتداء على سارية أو تخريبها أو تشويهها، هل سيتحرّك الإدعاء العام من تلقاء نفسه بمجرد أن يتناهى إلى علمه وقوع هذا الفعل الجرميّ المشين.. أم أنّ قضايا السواري ستكون من الدعاوى التي تستدعي شكوى من المُدّعي بالحقّ الشخصيّ؟!

وهل سنشهد في قضايا السواري "دعاوى متقابلة".. أو "سارية بسارية" على غرار "رابور برابور"؟!

وماذا عن الشكاوى الكيديّة وشكاوى الافتراء؟!

الفكرة التاسعة: ماذا لو تحوّلت السواري إلى سلاح سرّي للدمار الشامل تستغلّه دولة أجنبيّة مارقة أو كائنات فضائيّة شريرة؟!

آلة شيطانيّة ضخمة تقوم عبر منظومة للأقمار الصناعيّة بإطلاق عاصفة من شعاع الليزر أو الصواعق الكهربائيّة في الأجواء تتجّه صوب كلّ سارية من السواري المنتشرة في كلّ مكان محدثةً انفجاراً شاملاً ومدمّراً.. أو لتتحول السارية إلى سيخ تسخين ملتهب يُسخّن الهواء بسرعة ليرتفع إلى أعلى مُحدثاً تاثيراً فراغيّاً قاتلاً.. أو على الأقل إحداث مجال مغناطيسيّ بما يكفي لعطب جميع الأجهزة وحذف جميع البيانات التي اجتهدت الدولة وأنفقت مئات الملايين من أموال الديون والدعم من أجل أتمتتها وحوسبتها في غمرة التحديث والتطوير والتحوّل الاقتصاديّ!

أو دعونا من سيناريوهات الخيال العلميّ هذه ولنتحدّث عن احتمالات واقعيّة ممكنة، كأن يتم اختراق سلسلة تزويد السواري، ودسّ عبوة ناسفة في كلّ سارية يتم تفجيرها عن بعد عند الحاجة (على غرار البيجرات والووكي توكي).. أو زرع كاميرات وسمّاعات نانويّة لتصبح كلّ سارية بمثابة جهاز تجسّس.. أو زرع شريحة GPS تُستخدم للتوجيه وبثّ الإحداثيّات في حال الرغبة باستهداف أشخاص بعينهم أو مواقع دقيقة بعينها!

هذا قد يستدعي استحداث هيئة وطنيّة معنيّة بأمن السواري على غرار الأمن السيبراني، واستحداث التخصّصات الجامعيّة اللازمة من قبيل مواكبة روح العصر وربط مخرجات التعليم باحتياجات سوق العمل!

الفكرة العاشرة: لا أدري لماذا عندما سمعت بكلمة "سارية" خطر على بالي فيلم القلعة الأخيرة (The Last Castle)؟!

هل بسبب نهاية الفيلم الدراميّة ومحاولة إسقاطها على السياق العربيّ؟!

هل بسبب حبّي للمثّل "جيمس غندلفيني" الذي اختطفه الموت مبكّراً؟!

هل بسبب كرهي لبطل الفيلم "روبرت ويدفورد"، أو للدقة كرهي لشخصيته التي تجسّد تفوّق الرجل الأنجلو-سكسوني الأبيض الأشقر أزرق العيون الذي خُلِق ليتصدّر ويقود، والتمجيد المبالغ فيه للجنديّ الأمريكيّ والجيش الأمريكيّ أكبر ماكينة قتل ودمار وعدوان وبطش عرفها العالم في النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع الألفيّة الجديدة (وعصابة الكيان الصهيونيّ هي امتداد لهذا الجيش)؟!

أم السبب ببساطة الممثل "مارك رافالوا"، أحد نجوم الفيلم الشباب في حينه، وأحد أعلى المشاهير صوتاً حاليّاً في مناصرته لغزّة ومهاجمته للكيان، وأحد المشاركين في أسطول التضامن الدوليّ لكسر الحصار الجائر المفروض على غزّة؟!

إلى هنا وقد بات واضحاً على الأغلب سبب تأخيري للفكرتين الأولى والثانية حتى النهاية؛ فجميع الأفكار أعلاه لا تخلو من خباثة كتّاب الصحافة، وجموح كتّاب القصّة والأدب، والغمز واللمز المقصودين، ومحاولة استغلال موضع الكلام هنا من أجل توجيه النقد واللوم والتقريع هناك على طريقة "الشيء بالشيء يذكر" أو طريقة "الرابط العجيب"!

أمّا الفكرتان الأولى والثانية فهما بصدق وموضوعيّة أوّل فكرتين خطرتا ببالي بشكل تلقائيّ وعفويّ بدون قصد أو توجيه مُسبق.

الفكرة الأولى: أنّ هناك "سبّوبةً" وراء قرار إلزاميّة تثبيت السارية والعَلَم بطلها مُتنفّذ ما، أو مُورّد ما، أو مُقاول ما، أو مُزوّد خدمة ما.. سيستفيد و"يلحّس أصابعه" حتماً جرّاء هذا القرار، وطبعاً في مثل هذه الحالات "يا بخت مين نفّع واستنفع"!

ربما هذا الكلام غير صحيح بالمرّة، وربما لا توجد هناك بتاتاً أي مصالح ماديّة خفيّة أو مضمرة وراء القرار.. وهنا مكمن المأساة!

فكرة أن تكون مثل هذه الهواجس والشكوك هي أوّل ما يتبادر إلى ذهن المواطن، فكرة افتراض الأسوأ دائما، والأفسد دائماً.. هذا بحدّ ذاته مؤشر خطير على حجم فجوة الثقة الهائلة التي باتت تفصل بين المواطن والمسؤول، وبين المواطن وهرم السلطة، وقناعة الناس بأنّ الوطن قد بات ضرباً من "الشركة" أو "المزرعة" أو "الإقطاعيّة" التي تُدار لصالح أشخاص دون غيرهم، ولصالح فئة دون غيرها، ولصالح الأقليّة على حساب الأكثريّة!

مرّة أخرى قد لا يكون هذا الكلام صحيحاً، ولكن مجرد تملّك المواطن مثل هذه الأفكار والأحاسيس مؤسف وخطير!

الفكرة الثانية: قبل أن يتمّ إقرار فكرة السارية رسميّاً ودخولها حيّز التنفيذ، لا بدّ من وجود شخص ما هو أول مَن اقترح الفكرة، ولا بدّ من وجود مسؤول أو صاحب قرار ما هو أوّل مَن أُعجب بالفكرة، واقتنع بها، ووافق عليها، وسمح لها أن ترى النور وتُكمل مسارها وتأخذ مداها.. وهنا نحن أمام احتمالين:

الاحتمال الأول هو المصيبة؛ أي أنّ صاحب القرار هذا مقتنع حقاً بوجاهة الفكرة، ولا يرى في مبدأ حشر الولاء والانتماء في أنوف الناس حشراً، ومبدأ جعل المواطن يرفع عَلَم بلاده مُجبراً وتفادياً للغرامة الماليّة أو العقوبة، ومبدأ جعل العَلَم مادة للمزاودة والابتزاز وعسف السلطة.. لا يرى في ذلك كلّه إسفافاً، وقصر نظر، وإهانةً للعَلَم نفسه، وتقويضاً لفكرة الانتماء نفسها، واستتنساخاً لعقليّة أنظمة أمنيّة واستبداديّة رأينا بأمّ أعيننا مصيرها المحتوم!

والاحتمال الثاني هو الكارثة، أي أنّ صاحب القرار يعي جميع هذا الكلام جيداً، ومع هذا فهو يصرّ عليه، وعلى المضيّ قُدُماً فيه، غير عابئ بنتائجه وتداعياته على المدى البعيد من أجل غايات آنية قصيرة المدى!

العبرة هنا ليست في سارية وراية وكلفتهما الماديّة ومواصفاتهما الفنيّة.. العبرة في المبدأ نفسه والنمط نفسه و"النموذج الكامن" نفسه الذي نراه يمتدّ ويستشري يوماً بعد يوم ويطال المزيد والمزيد من رقعة الحياة العامّة والمجال العامّ.. فهل من مُدّكر؟!


نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق