نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: خيارات الأردن لترويض الدين العام #عاجل - تليجراف الخليج اليوم الثلاثاء الموافق 23 سبتمبر 2025 09:53 مساءً
كتب د. عدلي قندح
تشير المؤشرات الاقتصادية خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي إلى أن نسبة الدين العام في الأردن قد ارتفعت إلى نحو 118.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة مقلقة تعكس عمق التحديات التي تواجه المالية العامة، وتدل على اتساع فجوة الاستدامة المالية وارتفاع مستوى المخاطر المرتبطة بالقدرة على ضبط المديونية والسيطرة على أعبائها المستقبلية.
تجاوز الدين العام لمستوى الناتج المحلي الإجمالي لا يُعد مجرد مؤشر مالي عابر، بل هو جرس إنذار يضع الاقتصاد الوطني في دائرة الخطر، إذ تتصاعد أعباء خدمة الدين من فوائد وأقساط تستنزف الموازنة العامة، وتضيّق الخناق على الإنفاق التنموي والاجتماعي الذي ينتظره المواطن. وفي ظل هذا الواقع، يتعمّق أثر المزاحمة (Crowding Out) على الاستثمار الخاص، حيث تتجه البنوك إلى توظيف سيولتها في شراء السندات الحكومية الآمنة نسبياً على حساب تمويل المشاريع الإنتاجية التي يحتاجها الاقتصاد للنمو وخلق فرص العمل. ويزداد المشهد قتامة مع استحواذ الحكومة على نحو 60% من أموال صندوق استثمار أموال الضمان الاجتماعي، التي كان من الممكن أن تُوظف في مشاريع تنموية ذات عوائد طويلة الأمد، لتجد نفسها مجمدة في سندات حكومية محدودة الجدوى التنموية، وهو ما يضعف الدور الاستثماري الحقيقي للصندوق ويحد من إسهامه في تحفيز الاقتصاد.
عند النظر إلى العلاقة بين العجز المالي السنوي وارتفاع نسبة الدين، نجد أن استمرار تسجيل عجز في الموازنة يعني بالضرورة تمويله عبر الاقتراض الداخلي والخارجي. فإذا كان حجم الناتج المحلي الإجمالي الأردني يقدَّر بحوالي 36 مليار دينار، فإن نسبة الدين الحالية (118.5%) تعني أن إجمالي الدين يقارب 46.8 مليار دينار. وإذا استمر العجز السنوي بمعدل 2 مليار دينار دون تحقيق نمو اقتصادي حقيقي أعلى من معدل نمو الدين، فإن نسبة الدين إلى الناتج ستواصل الارتفاع لتتجاوز مستويات أكثر خطورة، مما يضع الأردن في وضع مالي هش أمام الصدمات الخارجية مثل ارتفاع أسعار الفائدة العالمية أو تراجع المساعدات.
النظرية الاقتصادية تؤكد أن العلاقة بين الدين والناتج ليست مجرد أرقام، بل هي توازن دقيق بين معدل نمو الدين ومعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي. فإذا كان معدل نمو الناتج أعلى من معدل نمو الدين، فإن النسبة ستتراجع مع الوقت حتى لو استمر الدين في الارتفاع المطلق. أما إذا كان العكس، أي أن الدين ينمو أسرع من الناتج، فإن الاقتصاد يدخل في حلقة مفرغة من تفاقم المديونية وتراجع القدرة على السداد، وهو ما يُعرف بمفهوم عدم الاستدامة المالية.
الحلول العملية لترويض الدين العام لا تخرج عن ثلاث دوائر مترابطة: الأولى هي ضبط العجز عبر إعادة هيكلة النفقات، وتقليص الإنفاق الجاري غير المنتج، وتحسين كفاءة الدعم والتحويلات، مقابل تعزيز الإيرادات الضريبية دون زيادة الأعباء على الطبقة الوسطى والفئات الفقيرة، من خلال مكافحة التهرب الضريبي وتوسيع القاعدة الضريبية. الثانية هي خفض تكلفة الدين عبر تنويع أدوات التمويل، وإطالة آجال الاستحقاق، والسعي لتحسين التصنيف الائتماني بما يسمح بالاقتراض بكلفة أقل. الثالثة هي رفع معدل النمو الاسمي من خلال تحفيز الاستثمار والإنتاجية والصادرات والسياحة، إضافة إلى تسهيل بيئة الأعمال، ما يرفع الناتج المحلي ويساعد على خفض نسبة الدين حتى مع استمرار العجز عند مستويات معتدلة.
جعل الدين أداة محفزة للنمو يتطلب أن يصبح الاقتراض استثماراً إنتاجياً لا مجرد وسيلة لسد العجز أو تمويل الإنفاق الجاري. يمكن توجيه الاقتراض نحو مشاريع البنية التحتية الذكية، والطاقة المتجددة، والتعليم المهني والتكنولوجي، بما يعزز إنتاجية الاقتصاد ويجذب استثمارات محلية وأجنبية. وفق النظرية الاقتصادية، يصبح الدين مستداماً إذا كان معدل العائد على المشاريع الممولة أعلى من معدل الفائدة على الدين، مثل تمويل مشروع طاقة يولد وفراً أكبر من كلفة الدين، ما يقلل الحاجة للاقتراض مستقبلاً ويحول الدين إلى أداة منتجة.
كما يمكن تنويع أدوات الدين وإصدار سندات تنموية مرتبطة بمشاريع محددة أو سندات خضراء مدعومة من المؤسسات الدولية، ما يعطي المستثمرين ثقة أكبر بأن الدين له مقابل إنتاجي ويخفض كلفة الفائدة. تعزيز الثقة وتحسين التصنيف الائتماني يعتبران عاملاً أساسياً؛ إذ أن نجاح الأردن في إظهار أن ديونه تُستخدم لزيادة الناتج المحلي يحسن تقييمه الائتماني ويخفض كلفة الاقتراض مستقبلاً. عند استخدام الدين لتمويل نمو اقتصادي حقيقي من خلال زيادة الصادرات ورفع الإنتاجية وخلق الوظائف، يرتفع الناتج المحلي الإجمالي، مما يقلل نسبة الدين إلى الناتج حتى لو بقي الدين ثابتا أو ارتفع قليلاً، ويعزز بذلك الاستدامة المالية.
باختصار، الدين لا يكون مشكلة إذا استُخدم كرافعة لزيادة النمو، لكنه يصبح عبئاً إذا استُهلك في الإنفاق الجاري غير المنتج. تحقيق الاستدامة المالية في الأردن يتطلب مزيجاً من ضبط العجز، خفض تكلفة الدين، وتحفيز النمو الاقتصادي، بما يجعل من الدين أداة استراتيجية للنمو والتنمية، بدلاً من عبء يهدد الاستقرار المالي والاقتصادي.
نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.
0 تعليق