في مجتمع يسيطر عليه الصمت تجاه العنف، تقف نساء شجاعات في بابوا غينيا الجديدة، في مواجهة هذا الواقع الأليم، ساعيات إلى كسر الدائرة المفرغة من الألم والخوف، باستخدام أدوات بسيطة، لكنها فعالة، كالرياضة والحوار والتعليم.
من بين أولئك النساء، تبرز الرياضية السابقة، تاهينا بوث، التي تحولت إلى ناشطة اجتماعية، حيث تقود برامج تهدف إلى تقليل الأذى الذي تتعرض له النساء، في بعض من أكثر المناطق خطورة في البلاد.
وتبدأ حكاية بوث من تجربة شخصية مؤلمة، حيث تعرضت للاغتصاب عندما كانت في السابعة من عمرها، وهو ما شكّل الأسئلة المحورية التي قادتها طوال حياتها، مثل: لماذا يُعد العنف أمراً طبيعياً؟ وماذا يتطلب الأمر لبناء واقع مختلف، لاسيما للفتيات اللواتي ينشأن في أماكن كبلدي؟
عنف
وبحسب إحصاءات رسمية، فإن نحو ثلثي نساء بابوا غينيا الجديدة، يتعرضن للعنف خلال حياتهن، وفي بداية هذا العام تسبب مقتل امرأتين، بحادثتين منفصلتين، في اندلاع أعمال عنف شديدة، ما أدى إلى غضب شعبي واسع، وتجدد الدعوات إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لوقف هذا الواقع المأساوي.
وتقول الناشطة البارزة في مجال حقوق الإنسان، روث كيسام، إن العنف القائم على النوع الاجتماعي - بما يشمل العنف الأسري والجنسي وحالات القتل المرتبطة باتهامات بالسحر - قد أصبح جزءاً من النسيج الاجتماعي، مشيرة إلى أن هذا العنف غالباً ما لا يتم الإبلاغ عنه بسبب الخوف من الانتقام أو فقدان الثقة في نظام العدالة، وتضيف: «إنه وباء يسكن منازلنا ومجتمعاتنا، والعنف بالنسبة للعديد من النساء هنا ليس حدثاً عابراً، بل تجربة يومية مستمرة».
ورغم قسوة الواقع تعمل نساء، مثل بوث وكيسام، بجهد في جميع أنحاء البلاد على تغيير هذه الذهنية المجتمعية، حيث تدير بوث برامج رياضية تُعلّم الشباب من الجنسين مبادئ القيادة، والمساواة، وحل النزاعات بشكل سلمي، وتقول إن «التغيير أصبح ملموساً من خلال برامجي، وأكثر ما أثر فيّ هو رؤية العائلات وكبار السن يجلسون في الخلف، يطرحون الأسئلة، ويستمعون باهتمام، هذا يعني أن شيئاً ما بدأ يتغير.. إنها قرية تتعلم من جديد، وأنا نفسي عشت هذه التجربة».
أفكار جديدة
في الجهة الشمالية الشرقية من البلاد، وتحديداً في مقاطعة موروبي الساحلية، تعمل (بي أوو) مع مجتمعها المحلي لطرح أفكار جديدة في التعامل مع المشكلات العائلية، وعندما تتعرض النساء للعنف، غالباً ما تكون (أوو) أول من يُطلب منها التدخل.
ومع أنها ليست محامية ولا تعمل في الشرطة، إلا أن (أوو)، وهي أمّ وناجية من العنف، أصبحت ملجأ للنساء، تستمع إليهن وتدوّن الشهادات، وتقدم المشورة للأزواج، وأحياناً تجد لهن مكاناً آمناً للمبيت.
تعيش (أوو) في قرية هون، وهي عضو في لجنة مكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي في موروبي، كما تتعاون مع مجموعات نسائية محلية، وفي معظم الأحيان تؤدي عملها بمفردها، متنقلة من منزل إلى آخر لتقديم المساعدة، وتقول: «أنا مررت بهذه التجربة أيضاً».
وتنظم (أوو) جلسات توعية حول العنف القائم على النوع الاجتماعي، والعنف المرتبط باتهامات السحر، وتزور المدارس والمجتمعات لنشر الوعي، وتؤكد أن جهودها بدأت تؤتي ثمارها، فالأطفال أصبحوا أكثر جرأة في الحديث عن الإساءات، ويطالبون آباءهم بوقف الشجارات، كما أن المسؤولين في القرى لم يعودوا صامتين، بل يتصلون بها مباشرة عند وقوع حوادث.
التمسك بالأمل
ورغم أنها لا تتقاضى أجراً مقابل كل هذا العمل، ولا تتلقى أي دعم مادي، وغالباً ما ينفد رصيد هاتفها، فإن (أوو) لاتزال متمسكة بالأمل، وتنتظر منحة صغيرة تساعدها في بناء منزل آمن، وتقول: «بعض العائلات التي كانت مفككة عادت إلى طبيعتها بعد المشاركة في جلسات التوعية، الناس بدأوا يفهمون القانون، ويدركون أن العنف أمر خاطئ، نعم.. الناس يتغيرون».
وترى (أوو) أن التغيير الحقيقي يجب أن يبدأ من القاعدة، أي من الأشخاص الذين يعرفون المجتمع ومشكلاته عن قرب، وتقول: «عندما تبدأ في التصدي للمشكلات، فإنك تساعد الآخرين في إيجاد الشجاعة لمواجهة مشكلاتهم العائلية».
«برنامج السلام»
وفي مقاطعة هيلا التي مزقتها الصراعات، تعمل عضو المجلس المحلي لمدينة تاري والقائدة المجتمعية، مورين موكاي، على معالجة المشكلات ذاتها، لكن من زاوية مختلفة، حيث أطلقت ما تُسميه «برنامج السلام»، الذي يضم العشرات من الرجال والنساء، بمن فيهم النازحات، ويهدف إلى تمكينهم عبر ورش عمل تشمل مهارات كالزراعة، والخياطة، وأنماط الحياة الصحية.
وتقول موكاي إن «هذه الورش تمنح المشاركين الشعور بالهدف، وتبني لديهم الثقة بالنفس، ما يساعدهم على التعامل مع التحديات بشكل أفضل»، وتضيف: «عندما يتلقون تدريباً على الصحة النفسية، يتغير تفكيرهم، نُريهم كيف يزرعون، وكيف يديرون أموالهم، وكيف يعيلون عائلاتهم، يحصلون على طعام أكثر، ويشعرون بالتغيير، وهذا يقلل من مستويات العنف. صحيح أننا لانزال نعيش وسط العنف، لكنني أرى التغيير يتحقق عبر برامجي».
فشل منهجي
ورغم وجود قوانين في بابوا غينيا لحماية النساء والأطفال، إلا أن التطبيق العملي لهذه القوانين نادر، والدعم المتوافر من الملاجئ والمنظمات محدود للغاية.
كما أنه وعلى الرغم من بعض المبادرات المجتمعية الناجحة، مثل حركة «هاوس كراي»، وحملات التوعية التي تقودها الكنيسة، إلا أن التحديات تبقى كبيرة، وتقول الناشطة روث كيسام، إن العنف القائم على النوع الاجتماعي يُنظر إليه غالباً كمسألة خاصة، وليس كجريمة عامة، ما يزيد من معاناة النساء.
وتضيف كيسام أن «العنف الذي تتعرض له النساء والفتيات ليس مجرد حالات فردية، بل هو نتيجة لفشل ممنهج في حماية الفئات الأضعف في المجتمع». عن «الغارديان»
«غراس سكيرت» لمعالجة العنف الاجتماعي
بعض البرامج المجتمعية أحدثت تغييراً حقيقياً في سلوكيات النساء. من المصدر
كرّست الرياضية السابقة في بابوا غينيا الجديدة، تاهينا بوث، جهودها لإحداث تغيير حقيقي في المواقف والسلوكيات المرتبطة بالنوع الاجتماعي، وبفضل تجربتها الشخصية وشغفها بالرياضة، أسست برنامجاً يحمل اسم «غراس سكيرت»، يهدف إلى التصدي للعنف القائم على النوع الاجتماعي، عبر استخدام الرياضة كأداة للتغيير المجتمعي.
وتقول بوث: «من خلال الرياضة، تعلمت للمرة الأولى معاني العدالة، والتعبير عن الرأي، وبناء الثقة بالنفس، وقد كان هذا هو الأساس الذي انطلقت منه لتأسيس مشروع (غراس سكيرت)».
واستناداً إلى هذه المبادئ، صممت بوث برامج رياضية تعليمية، بالتعاون مع مدربين ومعلمين، تهدف إلى تعزيز التفاهم، والتسامح، وبناء جسور الحوار.
في وقت مبكر من هذا العام، أطلق فريق بوث مشروعاً ميدانياً في مقاطعة هيلا، حيث شهدوا لحظات مؤثرة وتحوّلات حقيقية على أرض الواقع، وتصف بوث هذه التجربة قائلة: «رأينا فتياناً يلعبون كرة القدم مع الفتيات، وشبّاناً يتحدثون بصراحة عن الصدمات التي مرّوا بها، وذلك للمرة الأولى في حياتهم».
وفي إحدى الجلسات، عبّر أحد الشبان المشاركين قائلاً: «كنا في الماضي نجتمع للتخطيط للمشاجرات، أما الآن فنحن نجلس ونخطط للمباريات»، وتؤكد بوث أن هذا التغيير في التفكير والسلوك هو ما تسعى إلى ترسيخه في المجتمعات.
ولم يتوقف عمل بوث عند تنظيم الأنشطة الرياضية فحسب، بل تسعى أيضاً إلى تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للمشاركين، فهي تقوم بربط الناجين من العنف أو الصدمات بالخدمات المناسبة، مثل المختصين والمدربين المؤهلين، من أجل مساعدتهم على التعافي وإعادة بناء حياتهم، وتقول: «نحن نخلق مساحات آمنة، تشعر فيها النساء بالراحة للتعبير عن أنفسهن بحرية».
تحمل بوث رؤية طموحة لمستقبل بلدها، حيث تطمح إلى أن تصل برامجها إلى مليون شخص بحلول عام 2050، ورغم التحديات العديدة والثمن العاطفي الكبير الذي يتطلبه هذا العمل، تؤكد بوث أن الجهد يُحدث فرقاً حقيقياً في حياة الناس.
وتعبر عن رؤيتها قائلة: «نريد غينيا الجديدة التي تستطيع فيها الفتيات أن يلعبن بحرية، ويستطيع الفتيان أن يبكوا من دون خجل، لقد اختبرت بنفسي الواقع الذي نسعى لتغييره».
وترى بوث أن النساء في مختلف أنحاء بابوا غينيا الجديدة يقمن بأعمال بطولية يومية، ويسعين لبناء جبهة موحدة من أجل مستقبل أفضل، وتختم رسالتها بالدعوة إلى التضامن والعمل الجماعي، فتقول: «ابدؤوا التغيير من حيث أنتم، فنحن في حاجة ماسّة إليكم الآن».
دعوة قوية للتأمل والتحول
رئيس الحكومة في بابوا غينيا الجديدة وصف العنف ضد النساء بالوباء. من المصدر
مع اقتراب بابوا غينيا الجديدة من الاحتفال بالذكرى الـ50 لاستقلالها، أطلق رئيس الوزراء، جيمس مارابي، دعوة قوية للتأمل والتحول، معتبراً أن هذه المناسبة ليست فقط لحظة احتفال، بل فرصة حقيقية لإحداث تغيير جذري في المجتمع، لاسيما في ما يتعلق بالعنف القائم على النوع الاجتماعي.
وفي خطاب ألقاه، بشهر مارس الماضي، وصف مارابي هذا النوع من العنف بأنه «وباء» يُهدد نسيج المجتمع، ويقوّض التقدم الذي تسعى البلاد لتحقيقه، وتساءل: «لماذا نتجاهل معاناة زوجاتنا وبناتنا وشقيقاتنا؟»، وأضاف بحسرة: «لقد أمضينا 50 عاماً نتحدث عن التنمية ومستقبل أكثر إشراقاً لبلادنا، لكن كيف يمكننا ادعاء النجاح ونساؤنا لاتزال تعيش في خوف دائم؟».
وأكد مارابي أن العقود الخمسة المقبلة يجب أن تقوم على مبدأ أساسي لا يمكن التنازل عنه، وهو احترام المرأة، ورأى أن التغيير لن يأتي من السياسات الحكومية وحدها، بل لابد أن يبدأ من داخل كل فرد، خصوصاً الرجال، بوصفهم شركاء في بناء مجتمع آمن ومتوازن.
بدوره، شدد نائب رئيس الحكومة، جون روسو، على أهمية تحمّل الرجال مسؤولياتهم الشخصية تجاه إنهاء العنف ضد النساء والأطفال، وخلال فعالية نُظمت بمدينة لاي، في يوليو الماضي، قال روسو: «لا ينبغي لنا أن نعتمد فقط على الحكومة في إيجاد حلول لهذه الأزمة، فالمسؤولية تقع على عاتق كل رجل بأن يضمن ألا يكون جزءاً من دائرة العنف، بل أن يكون جزءاً من الحل».
وأضاف: «آن الأوان لنقف جميعاً وقفة جادة ضد العنف القائم على النوع الاجتماعي، وأن نُرسخ ثقافة الاحترام والمساواة، فالاحتفال الحقيقي بالاستقلال لا يكتمل إلا حين تكون المرأة آمنة، ومُكرّمة، ومُعترفاً بحقوقها في كل زاوية من هذا الوطن».
• العنف القائم على النوع الاجتماعي، بما يشمل العنف الأسري والجنسي وحالات القتل، أصبح جزءاً من النسيج الاجتماعي في بابوا غينيا.
• رغم وجود قوانين في البلاد لحماية النساء والأطفال، إلا أن التطبيق العملي لهذه القوانين نادر، كما أن الدعم المتوافر من الملاجئ والمنظمات محدود للغاية.
نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: نساء بابوا غينيا يكسرن صمت المجتمع عن العنف.. ويصنعن التغيير - تليجراف الخليج اليوم الخميس 18 سبتمبر 2025 04:55 صباحاً
0 تعليق