المعرفة المحلية vis-à-vis المعرفة التكنوقراطية ومخاضات اليرموك الرئاسيةالحزينة - تليجراف الخليج

0 تعليق ارسل طباعة

نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: المعرفة المحلية vis-à-vis المعرفة التكنوقراطية ومخاضات اليرموك الرئاسيةالحزينة - تليجراف الخليج اليوم السبت الموافق 13 سبتمبر 2025 03:58 مساءً

كتب د.عبدالحكيم الحسبان

تقول الطرفة الشعبية  أن رجلا بدويا  اعتاد أن يعتاش من تربية قطيع كبير من الماشية التي تعود له، ما أمن له استقلالية كاملة عن الدولة بكل ما فيها من خير أو شر مستطير. ولان الرجل يعتاش من قطيعه، فقد ورث معرفة هائلة وكبيرة بقطيعه. فهو يحفظ تواريخ ولادة كل ذكر وانثى فيه، كما يحفظ السيرة المرضية لكل واحدة منه. وهو يميز أيضا بين الطباع  التي تسم كل واحدة من افراد قطيعه. وفي حين تبدو ملامح النعاج لجاره الفلاح أو ساكن المدينة متماثلة ومتشابهة ولا فرق في الملامح بين شاة واخرى، فقد راكم هذا البدوي فراسة تتيح له التمييز حتى بين تفاصيل عيني كل شاة واختلافها عن الماشية الاخرى. وذات يوم، حدث أن  توقفت سيارة فارهة ودون استئذان على مقربة من البدوي ليترجل منها رجل يرتدي بزة رسمية  ملقيا التحية عليه، ولينتقل بعدها مباشرة إلى مخاطبة البدوي قائلا : من الواضح انك تمتلك قطيعا كبيرا من الماشية التي تنتشر على مساحة كبيرة  على سفوح التل وحوله، وعليه فأنني سوف اقدم لك خبرتي العلمية المتميزة كي اخبرك بعدد أفراد قطيع الماشية خاصتك. وعلى الفور قام الرجل باخرج حاسوبه  وجهاز الاتصال بالاقمار الصناعية مستخدما نظام الجي بي أس، ليقول للبدوي أنني توصلت الان الى الرقم الدقيق لعدد القطيع الذي تمتلكه. وسوف ادخل في تحد معك؛ ففي مقابل اجابتي الصحيحة حول تعداد قطيعك، فإن عليك ان تعطيني واحدة من نعاجك . حدث كل هذا والرجل البدوي يكتفي بالصمت مع ابتسامة ماكرة ولينتقل بعدها للحديث قائلا: اوافق على هذا التحدي . 

وبعد وقت طويل، استخرج الرجل تعداد القطيع من جهاز الحاسوب واخبر به البدوي الذي قال له لقد كسبت وهذا هو بالفعل تعداد قطيع الماشية، وقام بحمل واحدة من قطيعه ووضعها في صندوق سيارة الرجل. وليعود البدوي متحدثا للرجل: أما وانك اخبرتني أنك امتلكت من العلم والمعرفة ذلك القدر الكبير حتى تمكنت من معرفة عدد قطيع الماشية لدي، فأنني سوف افاجئك بامتلاكي لمعرفة تقول لي ما هي هويتك ومن تكون. لقد عرفت من أفعالك وصفاتك أنك خبير ومستشار وللاسباب التالية؛ لقد أتيت لي وأقتحمت عالمي دون استئذان، وقدمت لي خدمة ادعيتها دون أن اطلبها منك، وهو ما يفعله الخبراء والمستشارون عادة، فهم يأتون دون أن يطلب احد منهم ذلك، هذا اولا.  وأما ثانيا، فقد قمت وبعد جهد طويل  بتقديم معلومة ليست جديدة مطلقا بالنسبة لي، فأنا اعرف جبلا من التفاصيل عن قطيعي، وهذا ايضا ما يفعله المستشارون والخبراء، فهم يقدمون المعلومات والخبرات التي يعرفها الناس ولا يقدمون  جديدا. وأما ثالثا، فإن فقد قمت باستهلاك  الكثير من الموارد من وقت ومال كي تقدم معرفة أنا اعرفها ولا اجهلها، وهذا ايضا سلوك عام يتسم به المستشارون والخبراء. وأما السبب الرابع الذي جعلني اجزم أنك تحمل صفة خبير ومستشار، فهو أن الماشية التي وضعتها في صندوق سيارتك على مرأى من ناظريك، لم تكن مطلقا نعجة بل كانت كلبا ممن يتولى حراسة القطيع، وهذه أيضا واحدة من سمات من يحملون صفة مستشار وخبير، فهم يدعون أنهم يمتلكون معرفة دقيقة اكثر مما نملكه.

 

لطالما كانت المعرفة التي راكمتها كل ثقافة بشرية عبر الاف السنين من مسيرتها، وبعضها راكمها عبر مئات الالاف منها  لجهة القيمة التي تتمتع بها هذه المعرفة، كما لجهة الموثوقية التي يمكن الركون اليها في هذه المعرفة موضع نقاش بين علماء الانثروبولوجيا وخصوصا بين جيل الاباء المؤسسين منهم.  واكتسب النقاش سخونة اكبر حينما انتقلت المجتمعات  من مجتمعات اللادولة إلى مجتمعات الدولة وحيث الدولة باتت  عبر ذراعها البيروقراطي تتغلغل في كل المساحات المجتمعية حتى أكثرها خصوصية وحميمية. وبات النقاش يشهد استقطابا حادا بين ينحازون للدولة ولنسق المعرفة التي تنتجها الدولة التي تعتمد المؤسسية والتنظيم البيروقراطي العقلاني فباتت النخب العلمية هي التي تسود بحيث بتنا نعيش عصر التكنوقراط أي تلك السلطة ورجالاتها ممن يسيطرون ويحكمون ليس بفعل الوراثة أو القداسة الدينية وانما بفعل المعرفة العلمية التي تجعل منهم مراجع للمجتمع والدولة في  تحقيق الرفاه والازدهار. 

وفي مقابل هذا الطغيان لظاهرة التكنوقراط البيروقراطي ونسق المعرفة التقنية العلمية التي يدعون انهم ينتجونها وتقدم افضل الحلول لمشكلات المجتمع بمختلف انواعها، بقيت المجتمعات البشرية تحتفظ وتعيد انتاج ما سبق للسلف البعيد أن انتجه من معارف وافكار ومهارات، وحلول عملية لما تواجهه من مشاكل مختلفة. اقتصادية وصحية وبيئية . والحال أننا بتنا نشهد نقاشا محتدما بين الانثربولوجيين وعلماء الاجتماع حول نسق العلاقة بين تلك المعرفة الاصيلة التي تنتمي للتجارب البشرية التي عاشتها المجتمعات البشرية عبر الاف السنين وبين تلك المعرفة التي يقدمها التكنوقراط والبيروقراط الذي يحملون القابا من قبيل طبيب واستاذ جامعي ووزير ومستشار وخبير...ألخ.  في تمجيد المعرفة المحلية التي تنتجها الثقافة المحلية عبر تاريخها الطويل أحيل القارئ إلى مؤسس التيار البينوي الانثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي ستروس الذي كتب اعظم النصوص حول تمجيد الثقافات المحلية، وحول الاعلاء من قيمة نسق المعارف، والمهارات، والخبرات التي تختزنها كل ثقافة عبر تاريخها الشفوي او المكتوب الممتد طويلا. بل يذهب هذا الانثربولوجي الفرنسي حد القول أن العقل الانساني في أكثر المجتمعات تكنوقراطية وحداثة وعلمية  هو ذات العقل البدائي الاسطوري لجهة بنيويته. فالعقل البدائي   الاسطوري السابق للعلم هو عقل يعمل وفق مبدأ التعارض او التضاد الثنائي   opposition binaire وهو ايضا ذات المبدأ الذي يحكم عمل كل حواسيب طائرة البوينج التي يحكمها العلم التجريبي. 

والحال، فإن المناسبة التي جعلتنا نبدأ هذه المقالة بطرفة شعبية ولنتبعها بنقاش علمي بحت حول أيهما أكثر قيمة وجدوى؛ المعرفة المحلية للمجتمعات الاصلية، أم تلك المعرفة العلمية الصورية  البيرقراطية الوافدة من جامعات ومراكز بحثية علمية عالمية تتشابه وتتجانس وتتوحد في نسق المعرفة التي تنتجها، فان المناسبة التي جعلتنا نستحضر كل هذه التفاصل هو هذا المخاض "التقني" "البيروقراطي" الذي أعيشه مع كثير من زملائي في جامعة اليرموك ويتعلق بتسمية رئيس جديد لجامعة اليرموك، وهي الجامعة التي بات حالها يشكل صداعا مزمنا لصانع القرار، كما بات يشكل فاجعة للعاملين بها ولمجتمع الشمال بجله الذي عاش ما عاشه من تجارب مع هذه الجامعة ويدين لها بالكثير. 

فمنذ ما  يقرب من العام تشكلت اللجان، وتكدست المخاطبات ، وانتظمت الاجتماعات على مستوى الاقسام والكليات في الجامعات كما على مستوى مجالس العمداء والجامعة والامناء، مضافا اليها لجان أخرى على مستوى مجلس التعليم العالي. لا أبالغ إذا قلت أن الافا من الاشخاص في مواقع مختلفة داخل الجامعة وخارجها قد انخرطوا في مسار يقال انه تقني وبيروقراطي بالمعنى العقلاني بهدف التقييم للرئيس السابق ولاختيار الرئيس القادم. ولا أبالغ إذا قلت أن ملايينا من الدنانير بلغتها تكلفة التقييم هي أثمان لالاف من ساعات العمل لكل من انخرط في عملية التقييم، ولكل من عمل في الجامعة وكان عليه ان يقدم بيانات تخدم عملية التقييم وعملية اختيار الرئيس القادم. وحتى الان يقال أن العملية لم تكتمل وما زالت الدولة ومجلس التعليم العالي تنتظر بفارغ الصبر معرفة ما ستسفر عنه هذه العمليات والاجراءات البيرقراطية العقلانية التقنية العلمية من فرز وتحديد لاسم الرئيس القادم لجامعة اليرموك. 

وفي مقابل هذا المسار البيروقراطي التقني الطويل والمكلف بالنظر إلى عدد الخبراء والمستشارين المنخرطين فيه، فإن المعرفة المحلية  لدى مجتمع الجامعات الكيبر ولدى مجتمع جامعة اليرموك ومنذ  اكثر من عام  تمكن من تحديد اسم الرئيس القادم، بعيدا عن عمل اللجان وعمل المستشارين والخبراء الذي يقال انهم ما زالوا يعملون حتى اليوم كي يتم تحديد اسم الرئيس القادم. 

والحال، فان كاتبا  مثلي لطالما آمن بالدولة ، والعقل، وعقلانية البيروقراطية والخبرة الفنية التكنوقراطية عليه أن ينتظر هذا الصراع في نمطي المعرفة: معرفة محلية راكمها الاردنيون عبر تاريخهم الطويل بحيث باتوا يعرفون من يأتي وزيرا ورئيسا لجامعة ومديرا عاما لمؤسسة بطرقهم اليسيطة والسريعة وغير المكلفة، وهي معرفة لطالما أثبتت التجارب انها كانت في الغالب هي الصحيحة، ومعرفة تقنية فنية ينخرط بها بيراقراط تعود لتقرر ذات الاسم الذي عرفه الاردنيون قبل كل تلك المسارات الدولتية الطويلة لاختبار اسم الرئيس. 

أمتلك قدرا من الجرأة للقول أن ما حمتله قائمة الخمسة المصغرة لاسماء المرشحين لرئاسة جامعة اليرموك والتي جاءت بعد اسابيع من عمل اللجان الفنية البيروقراطية وبرغم تقدم اكثر من مئة مرشح لموقع رئيس اليرموك القادم، اثبتت أن المعرفة المحلية تتفوق على معرفة المستشارين والخبراء الفنيين. فأسماء من وردت في القائمة كانت المعرفة المحلية لسكان البلاد الاصليين تتداولها، وهم لم يفاجئوا حين قرأوا هذه الاسماء لانهم كانوا يتداولونها وحتى حين كان يقال أن رئيس اليرموك القادم سيكون من اليرموك، وان هذا هو قرار الدولة، كانت معرفة السكان الاصليين تتداول أسماء من خارج اليرموك، وهو ما حصل بالفعل. فقد جاءت القائمة باسماء في جلها من خارج اليرموك مع التفاتة خجولة مثلها اسم في القائمة ينتمي لجامعة اليرموك. 

 

نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق