من وحي سورة يوسف في أدب السجون - تليجراف الخليج

0 تعليق ارسل طباعة

نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: من وحي سورة يوسف في أدب السجون - تليجراف الخليج اليوم الاثنين الموافق 8 سبتمبر 2025 09:45 مساءً

 

ثمة سحر وبيان في سورة يوسف يأسر اللب ويدغدغ نياط القلب والوجدان، وبها من المعاني والمقاصد ما يجعلها دستوراً قائماً بذاته يحوي قواعد السلوك ويحكم ضوابط العلاقات، سيما الأسرية منها، وتحديداً الأبوة والأخوة وما يعتريهما من مشاعر ومواقف وإضطرابات. توضح السورة كذلك مسألة الحاكمية عبر سرد من أحسن القصص يؤكد على شروط السلطة وموجبات المسؤولية من كفاءة وعلم وأمانة وقوة، وجملة أخرى من عديد الحكم وقطائف العبر والمواعظ. ولطالما داومت على تلاوتها والإنصات إليها منذ الصغر خصوصاً بصوت المقريء الشيخ عبد الباسط عبد الصمد. غير أن ما يشد الإنتباه ويسترعي السمع أن سورة يوسف كأنها أسست لأدب السجون، ذاك اللون من الكتابة الذي ينبع من القيد ويسبح في عتمة الصبر، يولد من قلب الأنين وململة المعاناة، تحت سقف الذل محاطاً بجدران القسوة، أدب يفلت الأسى من جوانبه في لحظات من قهر وحرمان، ثم ينثر بذور الأمل والصمود على صفحات الكلمة، يحلق بها على بساط الفكر والخيال، ويحول الزنزانة إلى منبر أدب وكتابة وثبات.

أدب السجون صادق نابض بالإنسانية والفرج، مرآة للمعاناة ورمزاً للقوة في مواجهة القهر، يلثم جراح النفس، يهدأ صراع الروح مع العزلة ويطلق حنينها إلى الحرية وحلمها بالخلاص. أدب السجون يتجاوز الذات ويعبرها إلى فضاء الجماعة والشأن العام، يسجل الرفض ويعلن التحدي ويمضي وثيقة سياسية وفكرية تحمل رسائل إدانة ضد الاستبداد، يفضحه ويعريه. ولعل رائعة أبي فراس الحمداني "أقول وقد ناحت بقربي حمامة" أرقى ما يجسّد أدب السجون في أنقى صوره لما فيها من ذاتية حادة ورمزية عميقة ورسالة إنسانية تتجاوز حدود التجربة الفردية لتصبح صوتاً لكل من ذاق مرارة القيد في المعصم والفكر.

ثمة عظماء من صدر التاريخ ذاقوا طعم السجن على مر العصور، رجال فقه وحديث أمثال أبو حنيفة وإبن حنبل وإبن تيمية إذ ألف فتاويه فيه، وفلاسفة من مثل إبن رشد والراوندي، وشعراء من ضمنهم المعري وأبو العتاهية وبشار بن برد والمتنبي والحلاج وإبن زيدون، وأدباء كإبن المقفع وعلماء أمثال إبن حيان. وعالمياً كان أصحاب السجن كثر، منهم سقراط وفولتير وغرامشي، ومانديلا حين خط في السجن رحلته الطويلة نحو الحرية، ودفاتر غرامشي، ودوستويفسكي حيث أبدع ذكريات من بيت الأموات، ورسالة من سجن برمنغهام لمارتن لوثر كينغ، وغير ذلك كثير.

ومن أدباء العرب والمفكرين، خط سيد قطب معالم في الطريق في منافي السجن مع بعض أجزاء تفيأ بها في ظلال القرآن، وسنة أولى سجن، رواية حين خطها مصطفى أمين الذي مكث في السجن تسع سنين، فكانت أقدم الأنات التي خرجت من صدر العرب المتعب في السجون، ثم "شرق المتوسط" لصاحبها عبدالرحمن منيف، إلى الماغوط وأحمد ناجي ومصطفى خليفة وغسان كنفاني وأحمد فؤاد نجم، ثم درويش حين ارتقى صدر التصدي فأبدع قصيدة بطاقة هوية واختها سجّل أنا عربي.

روايتان تحديداً يجد فيهما القاريء بلسماً شافياً وترياقاً عذباً لعذابات الحيرة وبعض إشارات الاستفهام، وجملة مقام تشفي الغليل، أولاهما "يا صاحبي السجن" لأيمن العتوم الذي يروي فيها قصته مع السجن في صدر الشباب لأبيات من شعر ما كان ينبغي له أن ينظمها سوى قدراً يبدع ويثري مكتبة الألم والمعاناة وأدب السجن العربي المعاصر. رواية العتوم الأولى مهدت له طريق الأدب عندما واجه جدران الزنزانة وأقسى لحظات العزلة والأرق والحنين، فشرع في رحلة الذات في أعماق النفس والذاكرة، وحيث بدأ بالتجربة وصياغة الوعي وتطوير اللغة وتجويد النص والمعنى، وأسئلة أبدية من حرية وكرامة وإنسانية.

وأما الرواية الثانية فقد أبدعها يحيى السنوار عندما كتبها في الزنزانة قبل الشهادة بعشرين تحت عنوان "الشوك والقرنفل"، صور فيها رمزية الصراع الأبدي بين القيد والحرية، الألم والأمل، بين قسوة الشوك وطعم القرنفل. يسرد السنوار في الرواية قصة فلسطين في حواري وأزقة غزة، في عيون النساء ودموع الاطفال، يحاكي رجال كنفاني في الشمس، يسائل تجربة السجنين، الأصغر والأكبر، في المنافي والمخيمات والشتات، يؤسس لحركة "أدب الأسرى" التي تفيض رسائل من وراء القضبان، شعراً ورواية وقصصاً قصيرة يبدعها الأسرى الفلسطينيين منذ عقود. الشوك والقرنفل مرثية للأرض واحتفاء بإرادة الحياة في آن، تحمل في أحداثها أبعاداً عميقة من الرمزية، وفي طياتها فلسطيني ممزق بين معاناة الاحتلال وحلم التحرر، وحيث وطن مرهق يقاوم كي يبقى، يقتلع شوك العذاب والقيد وبرائحة القرنفل يشم الوفاء والأمل الذي في قلبه لا ينطفئ ما دامت هنالك شعلة من رجال، إشارة أو عبرة أو رؤيا من سورة يوسف عليه السلام.

 

نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق