أصبحت نيبال أحدث ضحايا الرواية الإعلامية الغربية التي تميل إلى تزيين الأحداث في الدول النامية، بإضفاء طابع رومانسي عليها، حيث تعرض الاحتجاجات على أنها ثورات طلابية مثالية تسعى إلى الإطاحة بحكومات «فاسدة وغير فاعلة».
هذه الرواية، رغم جاذبيتها للجمهور الغربي، فإنها تتجاهل الحقائق المعقدة الكامنة خلف ما يحدث على الأرض، وتخفي ما هو أبعد من مجرد احتجاجات سلمية، بدءاً من صراعات السلطة السياسية المفككة والضغوط الاقتصادية، ووصولاً إلى استغلال انتهازي ممنهج، يتغطى برداء «التحرر والديمقراطية».
ورغم أن ما يجري في نيبال يصفه الإعلام الغربي بأنه «كفاح من أجل العدالة والحرية»، فإن الواقع يقول شيئاً مختلفاً تماماً، ففي ظل هذا التجميل، تتم التغطية على العنف الممنهج الذي طال المؤسسات العامة، بما في ذلك حرق البرلمان والمحكمة العليا والمكاتب الحكومية.
لكن في أي دولة غربية، تُعدّ مثل هذه الأفعال جرائم تستوجب أحكاماً بالسجن لسنوات طويلة، أما في نيبال فقد تم الترويج لها على أنها «انتفاضة شعبية رومانسية»، ما يبرز ازدواجية معايير الإعلام الغربي.
فوضى
الحقيقة على الأرض في نيبال، أن ما يُسمى بـ«الثورة» لم يسفر سوى عن خراب شامل، فقد تحوّلت العاصمة كاتماندو إلى مدينة منكوبة، حيث تقدر الخسائر فيها بمليارات الدولارات، بعد حرق آلاف المباني، من مقار حكومية وبنوك وفنادق ومنازل خاصة، ووصل العنف إلى حد إعدام ثلاثة من ضباط الشرطة شنقاً، في مشهد يبرهن على خروج الأمور عن أي إطار قانوني أو إنساني.
هذه الأحداث لم تكن تعبيراً عن ديمقراطية، بل عن فوضى عبثية متنكرة في زي انتفاضة شعبية، تخبطت فيها الحشود الغاضبة من دون قيادة واضحة أو هدف محدد سوى تدمير البلد.
أحد الناشطين الاجتماعيين صرخ في وجه المتظاهرين قائلاً: «لقد أحرقتم هذا البلد»، وهي عبارة تلخص ببساطة حجم المأساة التي حلّت.
الشرارة الأولى
أما الشرارة التي أشعلت هذه الأزمة، فكانت قرار الحكومة بحظر 26 منصة من منصات التواصل الاجتماعي، منها «إكس» و«فيس بوك» و«واتس أب»، وذلك لعدم امتثالها للوائح التسجيل الجديدة، ففي بلد يعيش فيه نحو 7.5% من السكان في الخارج، ويعتمد على التحويلات المالية التي تُشكّل ثلث الناتج المحلي الإجمالي، شكّل هذا الحظر انقطاعاً في شريان الحياة الرئيس للكثير من العائلات، ما فجّر موجة غضب عارمة.
بدأت الاحتجاجات، في التاسع من سبتمبر الجاري، بتظاهرات سلمية، بمشاركة الشباب والطلاب، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى أعمال شغب دامية بعد أن قتلت الشرطة عدداً من المشاركين، ومنذ ذلك الحين، انزلقت نيبال إلى حالة من الفوضى الكاملة، وسط غياب تام لأي قيادة قادرة على احتواء الوضع.
لكن الحشود لم تكتفِ بالاحتجاج، بل حملت البنزين والأسلحة واقتحمت مقار الدولة والممتلكات الخاصة، في مشهد أقرب إلى التمرد منه إلى الثورة.
السبب الحقيقي
ومع ذلك، تصر وسائل الإعلام الغربية على تقديم هذه الأحداث ضمن إطار «ثورة شعبية» ضد نخبة فاسدة، متجاهلة السبب الحقيقي لانفجار الأزمة، وهو قطع التواصل مع العالم، وحرمان السكان من وسيلتهم الأساسية للتواصل مع أحبائهم في الخارج، فوسائل الإعلام الغربية، التي تروّج لما يحدث وكأنه «ربيع ديمقراطي»، تغفل عن حقيقة أكثر خطورة، وهي أن هذه الدولة الصغيرة في جبال الهيمالايا عانت عدم استقرار سياسي مزمن منذ تحوّلها إلى جمهورية ديمقراطية اتحادية في عام 2008، حيث تداولت 15 حكومة السلطة خلال 17 عاماً فقط.
وكانت النتيجة تفكك نيبال ومؤسساتها، وتعليق النظام الدستوري، وانقسام المجتمع، وانهيار ثقة الشعب بأي سلطة، وفي محاولة يائسة لإنقاذ ما تبقى، أعلن رئيس الوزراء المؤقت عن انتخابات جديدة، في مارس المقبل، إلا أن البلاد باتت تواجه تحدياً هائلاً في استعادة الحكم والنظام وسط هذا الدمار الشامل.
كما أن الوضع في نيبال ليس شأناً داخلياً فقط، بل له تداعيات إقليمية مباشرة على الجارة الهند، التي تشترك معها بحدود مفتوحة تمتد لأكثر من 1000 ميل، وهذا الانفتاح الحدودي يُسهّل انتقال الفوضى، سواء على شكل لاجئين، أو مهربين، أو حتى جماعات متمردة.
خطأ شائع
الغرب، في تحليله للأحداث في دول مثل نيبال، يكرر خطأً شائعاً، حيث يخلط بين العنف العشوائي والمطالب الشعبية المشروعة، ويضفي على الفوضى طابعاً ثورياً، لكن التاريخ يُظهر أن هذا النوع من «الثورات» نادراً ما ينتهي بتمكين الشعب بل في الأغلب ينتهي بتمكين الجيش، كما هي الحال الآن في نيبال التي باتت تحت سلطة عسكرية فعلية، في ظل غياب حكومة مدنية مستقرة.
هذا التوجه الإعلامي لا يُشكّل قراءة خاطئة فحسب، بل يضفي شرعية غير مستحقة على أعمال التخريب والدمار، ويقوض فرص بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية، وعندما تُمجد وسائل الإعلام الغربية العنف في دول مثل نيبال، بينما تدينه بشدة عندما يحدث في بلدانها - كما في اقتحام الكابيتول الأميركي في يناير 2021 - فإنها تمارس ازدواجية صارخة في المعايير، تُضلل الجمهور وتكرّم الفوضى. عن «ذا هيل»
عبرة
ينبغي أن تكون أحداث نيبال درساً وعبرة، حيث لا يمكن بناء الديمقراطية على أنقاض البلاد، ولا على رماد المؤسسات المحترقة، فالديمقراطية الحقيقية لا تأتي من العنف، بل من القانون، والنظام، والشرعية، ومن مؤسسات قادرة على البقاء وسط الأزمات.
الخلط بين الفوضى والتغيير ليس خطراً فحسب، بل وصفة مؤكدة لمزيد من الانهيار، وما يحدث اليوم في نيبال، إذا لم يُفهم على حقيقته، سيتكرر غداً في دول أخرى، تحت العنوان ذاته: «ثورة شعبية»، لكنه في جوهره، ليس إلا انهياراً في صميم أي دولة.
• ما حدث في نيبال تعدّه أي دولة غربية جرائم تستوجب أحكاماً بالسجن لسنوات طويلة.
• الحقيقة على الأرض في نيبال، أن ما يُسمى بـ«الثورة» لم يسفر سوى عن خراب شامل.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news
نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: نيبال.. أحدث ضحية لازدواجية معايير الإعلام الغربي - تليجراف الخليج اليوم الأربعاء 24 سبتمبر 2025 03:48 صباحاً
0 تعليق