نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: من السلوكية إلى الاستقرار الجامعي: دروس في الثقافة السياسية وإدارة المؤسسات (1- 2) - تليجراف الخليج اليوم الاثنين الموافق 1 سبتمبر 2025 12:53 مساءً
تؤكد التجارب الإنسانية أن بناء المؤسسات، سواء كانت سياسية كالأحزاب والبرلمانات، أو تعليمية كالجامعات والمدارس، أو اقتصادية كبنوك الاستثمار والشركات الوطنية، أو اجتماعية وثقافية كالنقابات ومراكز البحث، هو الركيزة الأولى لاستقرار المجتمعات ونهضتها وتطورها . وهذا المقال يجمع بين البعد النظري والتطبيقي: ففي جزئه الأول نتوقف عند إسهامات الحركة السلوكية في إعادة تعريف العلوم السياسية وإبراز دور الثقافة السياسية في ترسيخ التقدم والاستقرار المؤسسي، وادراك ان الثقافة السياسية هي المفتاح لفهم الانسان وصياغة مستقبل المؤسسات والمجتمعات على حد سواء . أما في جزئه الثاني فنتناول بالتطبيق واقع جامعة اليرموك كنموذج حي يعكس أثر غياب الاستقرار الإداري ، واحترام القيم المؤسسية والعدالة وتكافوء الفرص ،على مسار مؤسسة تعليمية وطنية.
حين نقرأ تاريخ تطور العلوم السياسية في القرن العشرين، فإننا نقف أمام محطة فاصلة لا يمكن تجاوزها، هي لحظة بروز الحركة السلوكية (Behaviorism). هذه الحركة لم تكن مجرد اتجاه جديد في البحث العلمي، بل مثلت ثورة فكرية ومنهجية أعادت تشكيل ملامح علم السياسة، وأجبرت الباحثين على إعادة النظر في أدواتهم وأسئلتهم ومناهجهم. فقد كان التحليل السياسي قبل السلوكية حبيس النصوص الدستورية والأطر القانونية، يركز على المؤسسات الرسمية مثل البرلمانات والحكومات والدساتير، ويكتفي بالوصف الشكلي للظواهر دون الغوص في أعماقها الاجتماعية والنفسية. فجاءت السلوكية لتكسر هذه القوالب الجامدة، وتنقل مركز الاهتمام من الهياكل الجامدة إلى الإنسان الحي: سلوكه، معتقداته، اتجاهاته اليومية، وعاداته.
لقد طرحت السلوكية سؤالًا جوهريًا: هل يمكن فهم السياسة حقًا بمجرد دراسة القوانين والأنظمة، دون النظر إلى الإنسان الذي يمارسها؟ وكانت الإجابة الحاسمة: لا. فالسياسة ليست نصوصًا مكتوبة على الورق، بل هي تفاعلات يومية تنبع من عقول البشر ووجدانهم وتصوراتهم. وهكذا، انتقل علم السياسة من مرحلة "ما هو مكتوب" إلى مرحلة "ما هو ممارس"، من دراسة النصوص الجامدة إلى تحليل السلوك الإنساني الديناميكي.
ومن هنا برز واحد من أهم المفاهيم التي أدخلتها السلوكية إلى حقل السياسة، وهو مفهوم "الثقافة السياسية". فهذه الثقافة لا تعني مجرد الإلمام العام بالسياسة أو متابعة الأخبار، بل هي المنظومة الكامنة من القيم والاتجاهات والمعتقدات التي يحملها الأفراد تجاه السلطة والمجتمع والدولة. إنها العدسة التي ينظر عبرها المواطن إلى مؤسساته، ومنها تنبع ثقته أو عدم ثقته، مشاركته أو عزوفه، قبوله أو رفضه. ولذلك، لم يعد ممكنًا بعد السلوكية تجاهل أثر البيئة النفسية والثقافية على العملية السياسية، إذ إن أي نظام سياسي يعيش ويتنفس من خلال البيئة الاجتماعية والثقافية المحيطة به.
وقد صنف علماء السياسة الثقافة السياسية إلى ثلاثة أبعاد أساسية. أولها هو توجه الأفراد نحو دورهم في المجتمع، ويُقاس من خلال الكفاءة السياسية (Political Competence) التي تعكس شعور الأفراد بقدرتهم على المشاركة السياسية، وكذلك الفعالية السياسية (Political Efficacy) التي تمثل إيمانهم بأن مشاركتهم لها قيمة وتأثير حقيقي. ثانيها هو توجه الأفراد تجاه الآخرين في المجتمع، ويُقاس عبر مفهوم الثقة السياسية (Political Trust)، أي استعداد الناس للتعاون مع المختلفين عنهم في الدين أو الطبقة أو الأصل أو المؤسسة. أما البعد الثالث فهو توجه الأفراد نحو التركيبة الحكومية (Political Structure)، أي مواقفهم من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، ورأيهم في السياسات العامة والقرارات الصادرة عن الدولة.
وفي ضوء هذه الأبعاد، قام العالمان غابرييل ألموند وسيدني فيربا بدراسة رائدة حول الثقافة المدنية، توصلا فيها إلى تقسيم ثلاثي لأنماط الثقافة السياسية. النمط الأول هو الثقافة السياسية المشاركة (Participant Political Culture)، حيث يشعر المواطنون بقدرتهم على التأثير، ويتعاملون مع السياسة بوصفها شأنًا يوميًا يملكون فيه دورًا فاعلًا. هذا النمط هو السائد في الديمقراطيات الغربية كالمملكة المتحدة والولايات المتحدة والدول الاسكندنافية، وهو ما يمنح هذه الدول مرونة واستقرارًا في إدارة شؤونها العامة. النمط الثاني هو الثقافة السياسية الخاضعة (Subject Political Culture)، حيث يتعامل الأفراد مع النظام السياسي باعتباره سلطة عليا لا يمكن التأثير فيها، فينحصر دورهم في الخضوع والامتثال، كما كان شائعًا في أوروبا الشرقية سابقًا والعديد من دول العالم الثالث. وفي بعض الحالات يُطلق عليه أيضًا نمط الثقافة السياسية اللامبالية (Apathetic Political Culture)، حين يغلب الشعور بالعجز واللامبالاة تجاه الشأن العام. أما النمط الثالث فهو الثقافة السياسية المحدودة أو المنعزلة (Parochial/Alienated Political Culture)، وهو السائد في المجتمعات التقليدية التي يسودها الجهل السياسي وضعف الوعي، حيث يفتقر الأفراد إلى أبسط المعارف حول العلاقة بين الفرد والنظام السياسي، فيعيشون في عزلة عن الشأن العام وكأن السياسة شأن غريب عن حياتهم اليومية.
هذه الأنماط الثلاثة ليست مجرد تصنيفات نظرية، بل أدوات لفهم الواقع. فحين ننظر إلى أي مجتمع أو مؤسسة، يمكن أن نسأل: هل يسود فيه نمط المشاركة حيث يشعر الأفراد بالقدرة على التأثير؟ أم يسود نمط الخضوع حيث يكتفون بالامتثال؟ أم أنه يعيش في عزلة تامة عن السياسة فلا يعرف الناس من أمرها شيئًا؟ هذه الأسئلة لا تقتصر على الدول فحسب، بل تمتد إلى الجامعات، الأحزاب، النقابات، وكل المؤسسات التي تشكل عصب الحياة العامة.
إن الحركة السلوكية لم تغيّر فقط منهج البحث في السياسة، بل فتحت الباب أمام جيل جديد من الدراسات التي تجمع بين البعد المؤسسي والبعد السلوكي، بين النصوص والواقع، بين الهياكل الرسمية والثقافة المجتمعية. والواقع أن إدماج الثقافة السياسية في دراسة النظم لا يمنحنا فقط فهمًا أعمق للمجتمع، بل يساعدنا على تحسين الأداء السياسي ذاته، من خلال تعزيز الكفاءة والفعالية والثقة بين المواطن والدولة.
لقد كان ظهور السلوكية بحق نقطة تحول كبرى، أعادت تعريف السياسة باعتبارها نشاطًا إنسانيًا حيًا يتجاوز الأوراق والأنظمة إلى تفاعلات البشر اليومية. ومن هنا، فإن أي مشروع إصلاحي جاد، سواء كان سياسيًا أو تعليميًا أو اجتماعيًا، لا يمكن أن ينجح إلا إذا انطلق من فهم الثقافة السياسية التي تسود المجتمع، لأنها المفتاح لفهم الحاضر وصياغة المستقبل.
يتبع غدا
نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.
0 تعليق