نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: الاردن: رواتب فلكية.. وشعب يحصي فتات الخبز! - تليجراف الخليج اليوم الاثنين الموافق 22 سبتمبر 2025 12:49 مساءً
كتب أ.د. محمد تركي بني سلامة -
من كان بحاجة إلى تقرير "الإندبندنت" البريطانية ليكتشف أن في الأردن فجوة بحجم المحيط بين رواتب المسؤولين الفلكية ومعاناة المواطنين الاقتصادية؟! نحن الذين نعيش الواقع المرير كل يوم، نعرف الحقيقة جيدًا، نلمسها مع كل فاتورة كهرباء، ونشتم رائحتها في أسواق الغلاء، ونحسبها على أصابعنا حين نُقلّب آخر ما تبقّى في الجيب. لكن يبدو أن "الخبر الصاعق" لا يصبح حقيقة إلا إذا ختمته صحيفة أجنبية!
التقرير أشار إلى أن بعض كبار المسؤولين يتقاضون رواتب وامتيازات قد تصل إلى 50 ألف دولار شهريًا، في بلد لا يتجاوز فيه الحد الأدنى للأجور 400 دولار، ولا يكاد متوسط دخل المواطن يصل إلى 600 دولار. مشهد سوريالي: قلة تعدّ آلاف الدولارات وهي تختار نوع السيارة الفارهة، وأكثرية تنشغل في عدّ القروش لتغطية إيجار بيت أو فاتورة دواء!
الحكومات تبرّر ذلك بأنه "حق مكتسب لأصحاب الكفاءات والخبرات". أي خبرات هذه؟! خبرة في تدوير المناصب بين الأصدقاء والأقارب؟ أم خبرة في إغراق الدولة بالمديونية التي تجاوزت الخمسين مليار دولار؟ إن كان هذا معيار الكفاءة، فليت شعري، كيف تُقاس الخيبة إذن؟
الأردن بلد يقوم اقتصاده على المنح والقروض، موازنته السنوية تُدار بانتظار حوالات الخارج، ثم نجد بين أروقته "صفوة" تعيش كما لو كانوا في سويسرا، بينما المواطن يلهث خلف كسرة خبز. هنا يصبح السؤال مشروعًا: هل نعيش في دولة واحدة حقًا، أم في دولتين؛ واحدة للنخبة المترفة، وأخرى للشعب الذي يكدّ ويدفع الثمن؟
الصحيفة تحدثت عن "برجوازية جديدة" يصعب اختراقها. أما نحن فنراها طبقة محصّنة، تعيش في أبراج زجاجية، محاطة بسياج من الامتيازات، لا يصلها صدى صراخ الناس في الأسواق، ولا تسمع أنين الأمهات على أبواب المستشفيات. طبقة تتحدث عن "الإصلاح الاقتصادي" من داخل صالات مكيفة، بينما المواطن يحاول النجاة من "العصف المعيشي" بلا مكيف ولا مظلة.
اللافت أن الحكومات لا تزال تُسوّق الرواية ذاتها: "الرواتب العالية تجذب الكفاءات". الحقيقة المؤلمة أن هذه الرواتب لا تجذب إلا الغضب الشعبي، وتُرسّخ قناعة مفادها أن العدالة صارت سلعة نادرة. فكيف لمجتمعٍ يُكافئ حفنة قليلة بهذا السخاء، ويترك السواد الأعظم على الهامش، أن يتحدث عن مساواة أو تكافؤ فرص؟
المضحك المبكي أن التقرير اعتبر ما يحدث "تناقضًا صارخًا"، وكأنها صدمة غير متوقعة! أما نحن فنسميه ببساطة "الحياة اليومية". كل صباح، يخرج المسؤول بسيارته المعفاة جمركيًا، ويتجه المواطن إلى عمله بحافلة مهترئة، وكل مساء، يضع الأول بطاقة ائتمانه السوداء على طاولة العشاء في مطعم فاخر، فيما يحسب الثاني ما تبقّى له من خبز ناشف.
إن استمرار هذا المشهد لا يعني فقط فجوة اقتصادية، بل يزرع فقدان الثقة بالدولة ومؤسساتها. فالمواطن الذي يشعر أن هناك "شعبين" في بلد واحد، لن يرى في السياسات إلا أداة لإدامة الامتيازات، لا لإصلاح الأوضاع. وهذه وصفة خطيرة لأي نظام يريد الاستقرار.
باختصار: لم يكن تقرير "الإندبندنت" كشفًا صادمًا بقدر ما كان إعادة طباعة لليوميّات الأردنية. نحن نعرف الحقيقة قبل أن تُكتب في لندن. لكن ربما نحتاج أن نتساءل بصوت أعلى: متى يصبح الإصلاح الاقتصادي حقيقةً يعيشها المواطن، لا مجرد عنوان في تقارير أجنبية؟ ومتى تُكسر تلك الطبقة الزجاجية التي تفصل النخبة عن الناس؟
إلى ذلك الحين، سيبقى المواطن يعدّ القروش في طوابير الخبز، بينما يعدّ المسؤولون الدولارات في أبراجهم… وتستمر الحكاية!
في الأردن… المواطن يفتش عن دينار ضائع بين جيوبه ليسدد فاتورة الكهرباء، بينما المسؤول يفتش عن دولة جديدة يضع فيها جزءًا من راتبه الفلكي!
نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.