تشرذم الرأي العام العربي وتلاعب الماكينة الإعلامية في المزاج الجمعي #عاجل - تليجراف الخليج

نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: تشرذم الرأي العام العربي وتلاعب الماكينة الإعلامية في المزاج الجمعي #عاجل - تليجراف الخليج اليوم السبت الموافق 20 سبتمبر 2025 08:23 صباحاً

 

كتب د. عبدالله حسين العزام

تتجلى بوضوح حقيقة أن الرأي العام العربي اليوم للأسف يعيش حالة من التشرذم غير المسبوق، تُغذّيها ماكينات إعلامية محلية وإقليمية ودولية تعمل على إعادة تشكيل المزاج الجمعي بما يخدم مصالح قوى بعينها، هذا التلاعب المنهجي لا يقتصر على صناعة المواقف تجاه قضايا سياسية أو اقتصادية، بل يتجاوزها ليطال منظومات التربية والأخلاق، ويعيد صياغة سلّم القيم الذي يُفترض أن يشكّل القاعدة الصلبة لبناء المجتمع العربي.

الإعلام على اختلاف مسمياته، بقدراته المتنامية على التأثير، غيّر وجه العملية التربوية، فلم تعد المدرسة أو الأسرة المصدر الوحيد للقيم، بل أصبح الإعلام بتنوعه المصدر الأكثر حضوراً في تشكيل وعي النشء ، هذا التحوّل جعل من السهل إضعاف الثوابت الأخلاقية وزرع نماذج مشوهة في أذهان الأجيال، الأمر الذي ينعكس على السلوك العام ويفكك الانسجام المجتمعي.

القيم العربية الجامعة مثل التضامن، العدالة، احترام الآخر، والتمسك بالهوية، أصبحت مهددة أمام موجات إعلامية تُعيد إنتاج الفردانية والاستهلاك والتبعية، ومع تراجع هذه القيم المشتركة، يضعف الرابط الاجتماعي الذي يشكّل أساس أي مشروع نهضوي عربي، وتتحول الأمة إلى فسيفساء متناحرة يسهل التلاعب بمكوناتها.

الأخطر من ذلك أن هذا التشرذم الإعلامي والفكري ينعكس سلباً على الأمن القومي العربي، فمجتمعات بلا وعي جمعي موحد ولا منظومة قيمية صلبة، تصبح هشّة أمام محاولات الاختراق السياسي والثقافي والاقتصادي، وهذا ما يجعل العالم العربي لقمة سائغة أمام القوى الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها الكيان الإسرائيلي، الذي يستفيد تاريخياً من تفكك المحيط العربي لإحكام قبضته على المنطقة وتعزيز مشاريعه التوسعية.

تاريخياً، أظهرت التجارب أن الانقسامات الداخلية كانت دائماً مقدّمة للانهيار السياسي والتراجع الحضاري، فالخلافات التي عصفت بالأندلس بين ملوك الطوائف جعلت شبه الجزيرة الإيبيرية لقمة سائغة أمام الغزو القشتالي حتى سقطت آخر ممالك المسلمين في غرناطة عام 1492، وفي العصر الحديث، أدى الانقسام العربي إبان غزو العراق عام 2003 إلى تسهيل التدخل الأميركي والغربي، إذ فشل النظام العربي في تقديم موقف موحّد يحمي إحدى أهم الدول العربية، كذلك كشفت الأزمة السورية منذ عام 2011 كيف أسهم العقم السياسي وحالة انسداد نظام الأسد البائد عن تطلعات الشعب السوري علاوة على تضارب المواقف الإقليمية والدولية، والتدخلات الخارجية، في إطالة أمد الصراع لأكثر من عقد، الأمر الذي أدى إلى تفتيت الدولة ومؤسساتها ومقوماتها الاقتصادية والعسكرية.

كما يُعدّ احتلال فلسطين المثال الأوضح على خطورة الانقسام العربي وتشرذم الرأي العام، فمنذ بدايات المشروع الصهيوني، استفادت الحركة الصهيونية من غياب موقف عربي موحّد وتشتت الحكومات العربية آنذاك بين أولويات محلية وإقليمية متضاربة، ومع اندلاع نكبة 1948، كان الانقسام العربي، وضعف الإعلام الموجَّه نحو الوعي الجمعي، أحد الأسباب التي سهّلت قيام "إسرائيل" على حساب الأرض والشعب الفلسطيني.

لاحقاً، تكررت ذات الإشكالية في محطات مفصلية: هزيمة 1967 التي عمّقت الشرخ بين الأنظمة والشعوب، واتفاقيات كامب ديفيد 1978 التي كسرت الإجماع العربي، وأخيراً الانقسام الفلسطيني الداخلي بعد عام 2007 الذي غذّته ماكينة إعلامية إسرائيلية وغربية هدفت إلى تحويل القضية المركزية إلى صراع داخلي، وبدلاً من أن يكون الإعلام العربي أداة لتوحيد الرأي العام خلف الحقوق العربية وحركات التحرر الوطني، أصبح في كثير من الأحيان وسيلة لإعادة إنتاج الانقسام أو تهميش القضية الفلسطينية.

ختاماً إن مواجهة هذه الإشكالية تتطلب بناء مشروع إعلامي عربي بديل، يرسّخ الوعي النقدي، ويحمي المنظومة التربوية والقيمية، ويعيد الاعتبار لفكرة المصلحة العربية المشتركة، ومن دون ذلك، سيظل الرأي العام العربي عرضة للتلاعب والتشرذم، وهو ما يشكّل أكبر تهديد للأمن القومي العربي ولمستقبل الأجيال، بل وللاستقرار السياسي للدول. والتاريخ، بدءاً من الأندلس وصولاً إلى فلسطين والعراق وسوريا، يثبت أن الانقسامات نهايتها دائماً الدمار والانكسار، وأن تماسك الرأي العام هو السلاح الأهم في مواجهة التحديات الوجودية.

نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.