نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: أصوات لا يمكن إسكاتها: الكتلة الشعبية الجديدة في قلب السياسة الأردنية #عاجل - تليجراف الخليج اليوم السبت الموافق 20 سبتمبر 2025 12:59 صباحاً
كتب : فراس عوض
ما حدث يوم الثلاثاء الماضي، حين اجتمعت ثمانية أحزاب أردنية مع رابطة الكتّاب تحت سقف واحد وأطلقت فعاليات الإضراب عن الطعام من مقر حزب العمال، لم يكن مجرد احتجاج عابر ولا فعالية رمزية يمكن أن تُطوى في أرشيف الأخبار. بل كان إعلانًا صريحًا عن ولادة كتلة سياسية واجتماعية ضخمة، كتلة تمتلك وزنًا انتخابيًا يزيد على أربعين بالمائة من أصوات الناخبين في الانتخابات النيابية الأخيرة. نحن أمام لحظة فارقة، إذ إن هذه النسبة وحدها، لو تجسدت في مقاعد مجلس النواب، لأنتجت كتلة نيابية وازنة تشكّل ما يزيد على ثلاثين بالمائة من البرلمان، وهي كتلة حرجة لا يمكن لأي سلطة أن تتجاهلها أو تقلل من شأنها.
هذه الأحزاب والرابطة لا تنطق باسم نخبة محدودة أو شريحة هامشية، بل تعبّر عن نبض عميق لشريحة واسعة من الأردنيين الذين يقرأون المشهد بصورة مختلفة عمّا اعتادت عليه السلطة. إنهم يرفعون مطالبهم ورؤيتهم بوضوح، ليس فقط في ما يتعلق بالقضايا الداخلية، بل أيضًا في الموقف المصيري من الاحتلال وحرب غزة. وحين يكون الصوت بهذا الحجم وبهذه الجرأة، فإن تجاهله يعني تضييق أفق القرار السياسي وحصره في زاوية واحدة، بينما الحقيقة أن الديمقراطية لا تنضج إلا بتعدد الرؤى وتوسيع دوائر النقاش.
وليس من المبالغة القول إن هذه الكتلة الشعبية لو أُتيح لها أن تتحول إلى قوة داخل مؤسسة البرلمان، لأعادت رسم خريطة القرار السياسي. ففي المغرب مثلًا، حين حصل حزب العدالة والتنمية عام 2011 على ما يقارب 27% من الأصوات فقط، قاد تشكيل الحكومة ورسم السياسات لعقد كامل تقريبًا، لأن تلك النسبة تحولت إلى قوة نيابية وازنة لم يكن ممكنًا تجاوزها. وفي تونس، نرى كيف أن حركة النهضة، رغم تراجع أصواتها في بعض الاستحقاقات، ظلّت قادرة على فرض نفسها في صناعة القرار ما دامت تمتلك قاعدة جماهيرية تقارب ربع الناخبين. فما بالك بكتلة أردنية تتجاوز الأربعين بالمائة من الأصوات الشعبية، لو جرى تمثيلها كما هي في البرلمان؟ كنا سنكون أمام كتلة قادرة على تعطيل أي قرار غير منصف، ودفع أي توجه إصلاحي، وتعديل أي قانون لا يعكس مصلحة الأغلبية.
إن قوة هذا التجمّع تكمن في أنه يفتح الباب أمام صياغة قرار سياسي أكثر رشداً. فالسلطة، أي سلطة، تكون أنضج وأعمق عندما تنطلق من قاعدة جماهيرية واسعة، وعندما تعكس قراراتها موازين القوى الحقيقية في المجتمع لا مجرد حسابات ضيقة. ما فعلته هذه الأحزاب هو أنها كسرت وهم التشرذم وأثبتت أن العمل السياسي إذا ما اجتمع على هدف واضح قادر على خلق كتلة شعبية وازنة، بل وقادرة على تغيير قواعد اللعبة نفسها.
إن تجاهل هذه الكتلة يعني إضاعة فرصة تاريخية لإعادة بناء جسور الثقة بين المواطن والسلطة. ويعني أيضًا تفويت فرصة لتجديد الحياة السياسية الأردنية وإخراجها من رتابة الصفقات الضيقة. فإذا كانت الديمقراطية في جوهرها تعبيرًا عن إرادة الناس، فها هم الناس قد تحدثوا بأصواتهم عبر صناديق الاقتراع، وها هم ممثلوهم قد جسّدوا تلك الإرادة عبر الفعل المباشر. إن أي سلطة عاقلة، حريصة على مستقبل البلاد، ستجد في هذا الصوت الشعبي الكبير رافعة لتجويد أدائها، لا خصمًا ينبغي تهميشه.
إن تنوع الرؤى لا يضعف القرار السياسي، بل يقويه. والرهان على الصوت الواحد والرؤية الواحدة لم يعد ممكنًا في عالم سريع التحولات. لهذا فإن ما جرى الثلاثاء الماضي هو درس بليغ في أن الديمقراطية ليست ترفًا، بل ضرورة لصناعة قرارات أكثر حكمة، سواء في مواجهة الاحتلال، أو في التعاطي مع الحرب على غزة، أو حتى في معالجة القضايا الداخلية من بطالة واقتصاد وحريات.
لقد قدّمت هذه الأحزاب ورابطة الكتّاب نموذجًا حقيقيًا لكتلة وازنة تقترب من نصف المجتمع، كتلة لو أُتيح لها أن تتجسد داخل مؤسسات الحكم لكانت قادرة على صياغة سياسات أكثر توازنًا وعدلًا. تجاهلها ليس فقط ظلمًا لها، بل ظلم للديمقراطية نفسها، وإفقار للحياة السياسية، وحرمان للأردن من فرصة تاريخية ليكون قراره أكثر نضجًا وشرعية.
إن الرسالة واضحة.. أصوات الناس حين تجتمع لا يمكن إسكاتها، ومطالبهم حين تتوحد لا يمكن دفنها. إنها بداية مسار جديد لا يُنضج الديمقراطية فحسب، بل يعيد الاعتبار لفكرة أن السياسة في أصلها عقد بين المجتمع والسلطة، عقد لا يقوم على التجاهل، بل على الإصغاء والاحترام والتفاعل المسؤول.
نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.