نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: الحذر الحذر يا مصر من "هدّة الحيل"! - تليجراف الخليج اليوم الأربعاء الموافق 17 سبتمبر 2025 12:50 مساءً
كتب كمال ميرزا -
على حين غرّة نجد الإعلام والفضاء التواصليّ يفيضان بتقارير وتحليلات وإدراجات وفيديوهات تتحدّث عن تنامي حالة التوتر بين الكيان الصهيونيّ ومصر بما ينذر باحتماليّة وقوع مواجهة قريبة!
خطورة هذه اللوثة الإعلاميّة والاتصاليّة أنّها تدغدغ مشاعرنا وعواطفنا كعرب ومسلمين، ورغبتنا بأن تنهض دولة ما (فما بالنا أن تكون الحبيبة مصر)، وتقول للعدو الصهيونيّ "كفى"، وتضع حدّاً لغروره وغطرسته وعنجهيّته، وتقتصّ منه على جرائمه وموبقاته، وتدّك معاقله دكّاً، وتدفع قطعان شراذمه ومستوطنيه ومرتزقته للفرار، وتحيي آمالنا بالتحرير والانعتاق من الهيمنة والتبعيّة، وتشفي غليلنا و"صدور قوم مؤمنين".. خاصة وأنّنا جميعاً مخذولون من الأنظمة العربيّة، وتفويتها للفرصة التاريخيّة السانحة التي منحها إياها "طوفان الأقصى"!
توقيت هذا اللوثة التي تحاول دقّ طبول الحرب بين الكيان ومصر غريب ومريب، بعد مرور حوالي السنتين على انطلاق معركة "طوفان الأقصى" المباركة وحرب "الإبادة والتهجير" الصهيو-أمريكيّة (ما كان من الأول!)، وبعد العدوان الصهيونيّ (غير المبرر) بضوء أخضر أمريكيّ على الصديق والشريك والوسيط القطريّ بحجّة استهداف قيادات المقاومة الفلسطينيّة المتواجدة هناك، وبعد تبنّي الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة لما يُسمّى "إعلان نيويورك" المتعلّق بحلّ الدولتين (والذي جزء أساسيّ منه تجريم المقاومة المسلحة ونزع سلاحها)، وبعد قمّة "الدوحة" العربيّة والإسلاميّة الطارئة التي يُفترض أنّها عُقدت لمناقشة كيفية الردّ على الانتهاك الصهيونيّ للسيادة القطريّة (فلم ترد)، وبعد شروع الكيان الصهيونيّ بتنفيذ خطته للأرض المحروقة من أجل احتلال كامل مدينة غزّة ومسحها تماماً عن وجه الأرض في نفس الليلة التي صدر فيها البيان الختاميّ لقمّة "الدوحة"!
ويزيد من الريبة والشكّ هنا أنّ هذه اللوثة تتزامن مع كلّ الحديث الدائر حول إنشاء ما تصرّ وسائل الإعلام على تسميته بـ "ناتو عربيّ" (تحتلّ مصر صدارته بحكم الأمر الواقع وطبيعة الحال ومنطق الأمور)..
ويزيدهما أكثر أنّ الإعلام الصهيونيّ نفسه (ومَن لفّ لفيفه عربيّاً وعالميّاً) هو من أكبر المساهمين في حالة "النفخ" هذه..
ويزيدهما أكثر وأكثر أنّ فيض الإدراجات والمشاركات التي يتمّ تداولها عبر "السوشال ميديا"، ولا يُعرف مصدرها الأول أو شخصيّة أصحابها الحقيقيّة.. يغلب عليه تمجيد وتهويل قوّة مصر (رغم اقتصادها المُنهك وأوضاعها المعيشية المتراجعة)، وجيشها الذي بات بين ليلة وضحاها "لا يُقهر"، ويتمتع باستقلاليّة تامّة تسليحاً وتقنيّاً ولوجستيّاً عبر تضخيم قدرات التصنيع المحليّة، أو عبر نسبة قدرات تكنولوجيّة خارقة لهذا الجيش تمكّنه من "تمصير" السلاح الأجنبيّ الذي يشتريه من دول عظمى نعلم تماماً أنّها لا تبيع قطعة سلاح واحدة إلا بعد أن تحتفظ لنفسها بهامش من الوصاية عليها وعلى ذخيرتها والحقّ باستخدامها!
النَفَس العام للوثة الحاليّة يذكّر بطريقة ما بالأجواء التي سادت قبيل ما تُسمّى "حرب الخليج الأولى" سنة 1990، والتهويل الكبير الذي جرى للجيش العراقيّ في حينه، "رابع أقوى جيش في العالم"، و"مدفعه العملاق" القادر على دكّ "تل أبيب" من "بغداد"، و"سكودّاته" و"أسلحة دماره الشامل" القادرة على حراثة الكيان الصهيونيّ من شماله إلى جنوبه!
ذلك التهويل، أو ما تُسمّى باللهجة العاميّة "التهواية"، كانت اللمسة الأخيرة قبيل الانقضاض على العراق، وتدمير قدراته ومقوّماته، وإرساء الأرضيّة لغزوه وتفكيكه في غضون سنوات قليلة، ووضع اليد على موارده ومقدّراته وثرواته، وسلب عقوله وخبراته أو تصفيتها، وتكريس حالة الانقسام والتشرذم والصراع بين أبنائه، وإرجاعه ألف سنة إلى الوراء حضاريّاً وسياسيّاً!
وطبعاً مخطط تدمير العراق كان يحتاج إلى حجّة أو ذريعة، وهذه الذريعة كانت الضوء الأخضر الضمنيّ الذي منحه الغرب ومنحته أمريكا للعراق من أجل غزو الكويت.. ليتم قلب الطاولة على العراق وفتح أبواب الجحيم عليه بعد قيامه بهذا الغزو المشؤوم!
وأخشى ما أخشاه أنّ لوثة نفخ مصر وجيشها، وتمجيدهما، و"التهواية" لهما، هي خديعة هدفها استدراج مصر من أجل الانقضاض عليها..
سواء من خلال وضع مصر في الواجهة و"بوز مدفع" للردّ على العدوان الصهيونيّ على قطر، وهنا لا بدّ لنا أن نسأل أنفسنا أين هي المليارات التي أنفقتها دول الخليج على شراء السلاح الغربيّ، وأين هي الترليونات التي وهبتها للراعي الأمريكيّ لكي يحميها من أي عدوان؟!
أو من خلال منح مصر ضوءاً أخضر لتنفيذ خطّتها من أجل إعادة إعمار غزّة، وتوريطها باتخاذ خطوات أحاديّة على الأرض بهذا الخصوص مثل فتح الحدود مع القطاع من طرف واحد، وإدخال المساعدات عنوةً، وإدخال قوّات إلى القطاع من أجل منع التهجير و/أو الإمساك بزمام الإدارة والأمن على الأرض.. ومن ثمّ التذرّع بأن مصر بتصرفاتها هذه قد انتهكت القانون الدوليّ وخرقت اتفاقيّة "كامب ديفيد" والتفاهمات المنبثقة عنها!
الذين يعرفونني يعلمون جيداً أنّني من أكبر عشّاق مصر، ومن أكبر مريدي مصر، ومن أكبر المؤمنين بأنّ العرب والمسلمين والشرق كلّه لا يمكن أن تقوم لهم قائمة بدون مصر، وأنّ مصر إذا عطست أُصبنا جميعاً بالزكام!
وقناعتي الراسخة أنّ كلّ مشاريع السيطرة والهيمنة والاستلاب التي ينسجها المشروع الإمبرياليّ الرأسماليّ الغربيّ من أيام نابلوين ولغاية الآن مبتداها مصر ومنتهاها مصر.
وحتى الكيان الصهيونيّ، المُستهدَف الأول من زراعته في المنطقة هو مصر (ولا يعني هذا أنّ البقيّة غير مستهدفين)، لإغلاق بوابتها الشرقيّة، ولعزلها عن عمقها الإستراتيجيّ الشام والعراق، ولإمساكها من خاصرتها الضعيفة أو التي يراد لها أن تكون ضعيفة "سيناء".
وما احتلال بغداد وتدمير العراق، وإسقاط دمشق وتدمير سوريا، و"الجدار المتهتّك" الذي تتسبب به الفوضى في ليبيا والسودان وغزّة ما قبل وما بعد "الطوفان".. كلّ هذا ما هو بمعنى من المعاني إلّا تمهيد للطريق وتهيئة للظروف من أجل الوصول إلى "الغنيمة" الأكبر/ الخطر الأكبر مصر!
وما من شيء أحب على قلوبنا جميعاً من أن يُعاد إحياء التضامن العربيّ الحقيقيّ، والجبهة العربيّة الموحدة، وأن تكون مصر في صدارة وقيادة هذه الجبهة.
ولكن هذا الكلام لا يعني أن تعمينا الحماسة، وننجرف وراء العاطفة، وتغّرر بنا الأماني والرجاءات، ونسمح بتدمير حاضرتنا وقلعتنا الأخيرة مصر.. بغض النظر عن موقفنا من نظامها الحاكم، ومقدار رضانا أو عدم رضانا عنه، ومدى ثقتنا بإخلاصه وصدق دوافعه وبواعثه ومراميه.
وإذا كان إخراج مصر من الصراع عبر اتفاقيّة "كامب ديفيد" هي أكبر ضربة قاصمة للظهر وُجهت للقضيّة الفلسطينيّة، أقوى حتى من "أوسلو" و"التنسيق الأمنيّ".. فإنّ عودة مصر إلى الصراع والمواجهة المباشرة هكذا اعتباطاً قد تكون مسألة أكثر خطورةً وفداحةً وكارثيّةً ما لم تتوفّر ضمانات حقيقيّة ومن جملتها:
ـ إعلان كافّة الدول العربيّة حالة العداء مع الكيان الصهيونيّ بشكل رسميّ (وليس فقط حكومته الحاليّة أو يمينه المتطرّف)، وقطع كافة العلاقات وأوجه التبادل، وإلغاء جميع المعاهدات والاتفاقيّات والتفاهمات الموقّعة معه.
ـ اعتراف جميع الدول العربيّة رسميّاً بفصائل المقاومة الفلسطينيّة كحركات تحرّر وطنيّ مشروعة.
ـ تأسيس قيادة عسكريّة عربيّة موحّدة تكون مصر على رأسها، وعدم السماح لأي أطراف خارجيّة بالتدخّل في شؤون هذه القيادة، لا بصيغة حليف، أو صديق، أو مستشار، أو مراقب.
ـ إرسال الدول العربيّة، وبالأخص دول الخليج، قوّاتها لتكون كتفاً بكتف وساقاً بساق إلى جوار القوّات المصريّة في أي تحرّك أو مواجهة مستقبليّة.. لا أن تُترك مصر لتخوض حرباً بالوكالة لوحدها (ما لم تزهد مصر من تلقاء نفسها بهذه القوّات).
ـ وضع جميع الدول العربيّة أسلحتها وعتادها وذخائرها تحت تصرّف مصر والجيش المصري عند الطلب.
ـ وضع جميع الدول العربيّة سلاح النفط والغاز والطاقة تحت تصرّف مصر والجيش المصري عند الطلب.
ـ التوقّف عن ابتزاز مصر اقتصاديّاً، وإيداع المليارات في خزينة البنك المركزيّ المصريّ لضمان استقرار الاقتصاد وسعر العملة.
ـ إسقاط الديون عن مصر، والمساعدة في تصفية الديون الأجنبيّة، سواء من خلال السداد المباشر، أو من خلال شراء هذه الديون لحساب الصناديق السياديّة العربيّة.
ـ التوقّف عن تمويل وتسليح الميليشيات والفصائل التي تتسبب لمصر بتوترات وقلاقل وهواجس أمنيّة في كلّ من ليبيا والسودان.
قد يرى البعض أنّ هذه الضمانات غير واقعيّة ومبالغ فيها، ولكن ليست مصر مَن تحتاج إلى تذكير بالدور الطاعن في الظهر الذي طالما لعبته "الرجعيّة العربيّة" لصالح العدو عبر تاريخ الصراع، فكيف لها ولنا أن نؤمّن الآن لهذه النخوة والمروءة والشجاعة التي هبطت على أصحابها فجأة؟!
كلنا نعشق أغنية الشيخ إمام "يا مصر قومي وشدّي الحيل"، ولكن فرق كبير بين دعوة للقيام مردّها إيمان حقيقيّ وصادق بمصر وعزيمتها وحيلها، وبين دعوة هدفها في نهاية المطاف التآمر على مصر وهدّ حيل مصر!
بقي هناك إجراء واحد وضمانة واحدة لا بدّ من القيام بها، ولكن هذه الضمانة تقع على كاهل مصر وليس أي طرف آخر: قيام الجيش المصريّ باحتلال سدّ النهضة الأثيوبيّ، وفرض سيطرته عليه، ومن ثمّ التفاوض على أساس هذا الأمر الواقع الجديد بكون ما يُسمّى القانون الدوليّ والشرعيّة الدوليّة لا يعترفان إلّا بسياسة الأمر الواقع!
نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.