نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: الأردن وبنك الاستثمار الأوروبي: من مياه الديسي إلى الاقتصاد الأخضر - تليجراف الخليج اليوم السبت الموافق 13 سبتمبر 2025 12:41 مساءً
منذ أن بدأ بنك الاستثمار الأوروبي حضوره في الأردن عام 1979، ظل دوره يتراوح بين الممول الداعم لمشاريع التنمية الكبرى وبين الشريك الذي يسعى لتوجيه السياسات الاقتصادية نحو آفاق أوسع. غير أن العقد الأخير، الممتد بين عامي 2014 و2024، حمل تحولات لافتة جعلت من هذا البنك الأوروبي أكثر من مجرد مؤسسة مالية تمنح القروض، بل لاعباً أساسياً في صياغة مسار الاقتصاد الأردني، خاصة مع حجم التمويلات التي تجاوزت 2.25 مليار يورو، ما يثير تساؤلات جدّية حول طبيعة العلاقة: هل ما زال دوره يقتصر على الإقراض التقليدي، أم أنه أصبح شريكاً استراتيجياً في تشكيل مستقبل الأردن الأخضر؟
في السنوات الأولى من هذا العقد، بدا واضحاً أن البنك يركز على المشاريع الكبرى ذات الطابع الحيوي، حيث توجه التمويل نحو قطاع المياه الذي يعد من أكثر القطاعات حساسية في الأردن. مشاريع مثل جر مياه الديسي ومياه وادي العرب ودعم وادي الأردن لم تكن مجرد تدخلات تقنية، بل شكلت ركائز لبنية تحتية مائية تحمي البلد من أزمات متوقعة في ظل ندرة الموارد. وفي الوقت نفسه، فتح البنك نوافذ التمويل أمام الشركات الصغيرة والمتوسطة من خلال خطوط ائتمان عبر البنوك المحلية، الأمر الذي انعكس مباشرة على القطاع الخاص، حيث استفادت نحو 800 شركة وحُميت أو أُنشئت بفضلها 45 ألف وظيفة، ما جعل تدخل البنك ملموساً على مستوى الاقتصاد المجتمعي لا المؤسساتي فحسب. وجاءت جائحة كوفيد-19 لتكشف البعد المرن لدوره، إذ لم يتردد في توجيه دعم مباشر لوزارة الصحة، ليؤكد حضوره كفاعل يتجاوز حدود المشاريع التقليدية.
لكن مع مطلع 2021، تغيرت المعادلة جذرياً. فالبنك لم يعد مجرد ممول للبنية التحتية، بل أعاد تعريف نفسه بوصفه "مصرفاً مناخياً” يضع في صدارة أولوياته دعم الاقتصاد الأخضر والتحول نحو الطاقة النظيفة. هذا التحول تجلى في مشاريع الطاقة المتجددة وخفض الانبعاثات، إضافة إلى قرض ضخم بقيمة 400 مليون يورو لإصلاح قطاع المياه، وهو ما ارتبط مباشرة بالاستعداد لتمويل الناقل الوطني لتحلية مياه العقبة ونقلها إلى عمان، المشروع الذي يُنظر إليه بوصفه شريان حياة استراتيجي للمملكة. كما كان للبنك دور في دعم السياسات النقدية عبر شراكته مع البنك المركزي الأردني، حيث سعى إلى تخضير النظام المالي وإدماج تقييم المخاطر المناخية في قرارات الإقراض، في خطوة تتجاوز حدود التمويل التقليدي نحو إعادة هيكلة فكر القطاع المالي نفسه.
واليوم، مع اقتراب عام 2025، تتبلور رؤية جديدة لبنك الاستثمار الأوروبي في الأردن، رؤية ترتكز على ثلاثة محاور رئيسية: تعزيز الأمن المائي عبر ربط التمويل بالنتائج المحققة في تقليل الفاقد وتحسين الاعتماد على التحلية؛ دعم تخضير النظام المالي بما يمكّن القطاع الخاص من الوصول إلى أدوات تمويل مبتكرة ومقاومة للتغير المناخي؛ وأخيراً الدفع نحو التحول المؤسسي عبر الدعم الفني وحوارات السياسات، مع السعي إلى إنشاء منصات بيانات وطنية للمناخ والمياه لتكون مرجعية للقرار الاقتصادي والبيئي على حد سواء.
لكن يبقى السؤال الأهم: كيف يمكن تقييم دوره الحقيقي؟ فالأرقام وحدها لا تكفي لتحديد ما إذا كان البنك قد تحول فعلاً إلى شريك استراتيجي أم أنه ما زال يعمل بمنطق الممول التقليدي. من منظور كمي، يمكن النظر إلى نسبة التمويل الأخضر مقارنة بالهدف الأوروبي البالغ 50%، وحجم الاستثمارات الخاصة التي جرى تحفيزها مقابل كل يورو يقدمه البنك، وكذلك التوفير الذي ينعكس على المالية العامة من خلال تخفيف الأعباء عن الموازنة، إضافة إلى تأثيراته المباشرة في الأمن المائي وفرص العمل المستدامة. أما من زاوية نوعية ومؤسسية، فإن القيمة الحقيقية تكمن في مدى إضافته للاقتصاد المحلي عبر بناء القدرات، وتعزيز جاهزية البنوك لتبني معايير المخاطر المناخية، وتهيئة بيئة مصرفية قادرة على التكيف مع التحولات العالمية.
وما يجعل التجربة أكثر ثراء هو استخدام أدوات مبتكرة غير تقليدية مثل المراقبة عبر الأقمار الصناعية، والاعتماد على البيانات غير التقليدية في تقييم المشاريع، وطرح سندات مرتبطة بالنتائج، وصولاً إلى محاكاة سيناريوهات الدين واختبارات الضغط للمصارف. هذه الأدوات، إن طُبّقت بجدية، ستشكل علامة فارقة في طريقة عمل البنك، وتؤكد تحوله من مؤسسة تمويلية إلى شريك يعيد صياغة العلاقة بين التنمية والتمويل والسيادة الاقتصادية.
وفي نهاية المطاف، يبقى الدور الذي سيخلده التاريخ رهناً بقدرة البنك على ربط التمويل بالنتائج، وعلى تحمّل المخاطر جنباً إلى جنب مع القطاع الخاص، وعلى ترسيخ البنية المؤسسية الوطنية بما يضمن الاستدامة. فإذا نجح في ذلك، فسوف يُنظر إليه كشريك استراتيجي حقيقي للأردن في رحلته نحو اقتصاد أخضر مستدام، أما إذا بقي أسير المنهج التقليدي، فسوف يظل مجرد ذراع تمويلية لا أكثر، تسجل حضورها بالأرقام لا بالتحولات النوعية.
نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.