نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: قتل المُفاوض: حينَ يُصبِح قتلِ المُفاوض هدفًا استراتيجيًّا اسرائيليًّا - تليجراف الخليج اليوم الثلاثاء الموافق 9 سبتمبر 2025 11:52 مساءً
في كُلّ الصِّراعات المُمتدّة، هناكَ لحظاتٌ تُفتح فيها أبواب التّفاوض ؛ لتجريبِ إمكانيّة العُبور مِن ساحةِ الدَّم إلى طاوِلة الكلام. لكن، ثمّةَ قوى لا تتحمَّل هذا الانتِقال. فتعمَل على قتلِ المُفاوِض الآخر. ليسَت هذه جريمةٌ معزولة، بل هي فعلٌ سياسيّ بامتياز، يستهدِف قتل الفكرةِ لا الشَّخص، وإغلاق الباب أمامَ احتِمالاتِ التّسوية.
هذا النَّوع مِن القَتل، ليسَ وليدَ الصّراعاتِ الحديثة. فمنذُ القُرون الوسطى، شهدَت أوروبا والعالَم الإسلاميّ حوادثَ تُظهِر أنَّ قتلَ المُفاوِض لم يكُن صدفَة، بل هو أداةٌ تاريخيّة. حيثُ كانَ سلاحًا لقطعِ الطّريق على التّفاهُمات. ففي الحُروب الصليبيّة، كثيرًا ما جرى استهداف الرُّسل أو الوسطاء بحجّةِ الخيانة أو "التّخابُر مع العدو" ؛ ليُسقطَ بقتلِهم أيّ أملٍ في وقفِ النّزاع. والهدَف المؤكّد من ذلك، واضِحًا: إدامَة الحَرب، وإبقاء راية الدّم مرفوعةً. وفي الممالِك الأوروبيّة، لم يكُ غريبًا أن يغتالَ مبعوث ملك أو دبلوماسيٍّ في الطُّرقات ؛ حتى لا يُنصت الآخرونَ إلى "صوتِ السّلام" الّذي قد يُضعِف الحماسةَ للقِتال.
أمّا في العصرِ الحديث. فإنَّ اسرائيل تُعَد من أكثر الكياناتِ الّتي وظّفت هذا النَّمط من القتل بشكلٍ منهجيّ. فهي لم تكتَفِ بقتلِ المُقاومين في ساحاتِ المواجهة، بل عمِلَت بوعيٍ على استهدافِ القادة السياسيينَ الّذينَ يُمثّلونَ خطّ المُفاوضة مِن داخل حركاتِ المُقاومة الفلسطينيّة، وعلى رأسها حركة "حماس".
فالاغتيالاتِ الّتي طالَت قادة سياسيين مثِل: أحمد ياسين، عبدالعزيز الرنتيسي، اسماعيل هنيّة، لم تكُن موجّهة ضدّ "عسكريين" فحَسب، بل ضدّ رموزٍ قادرينَ على الجَمع بينَ "المُقاومة" و"السياسة"، وعلى نقلِ صوت الحرَكة إلى ميدانِ التّفاوُض. كانَت الرسالة الإسرائيليّة مِن ذلك واضِحة: لا تفاوض مع حماس، بل يجِب ألّا يبقى لها لسان سياسيّ أصلًا.
حتّى في المساراتِ الّتي شهدِت مفاوضاتٍ غيرَ مُباشرة - مثل مفاوضاتِ التّهدئة عبرَ وُسطاء إقليمييّن أو دوليين- كانَت إسرائيل تُحاول تصفية مَن يمتَلك وزنًا سياسيًّا داخل الحرَكة، وكأنّها تُريد أن تتركَ الفلسطينيينَ بلا قياداتٍ يُمكِن أن تُمسكَ بملفّ التّفاوض، بل فقط واجهاتٍ عسكريّة ميدانيّة، يسهُل اتّهامها ب"الإرهاب" لعزلها عن الشرعيّة الدوليّة.
ومِن هُنا، فإنَّ قتل المُفاوض، بالنّسبة لإسرائيل، هو "استراتيجيّةٌ للهَيمنة". إذ لا يُراد منه الانتصارَ في المعركةِ العسكريّة بقدَر ما يُراد منهُ ضبط المشهَد السياسيّ وفقَ مقاسِ القوّة المُهيمِنة. اسرائيل، أي القاتِل، يُريد أن يقول: لا مكانَ ل"لغةٍ" أُخرى غير لُغتي. فلا يبقى في ساحةِ الصِّراع سوى صوت السّلاح، لتبقى اليد العُليا لمَن يمتَلك ترسانَة "الحديد والنّار".
ولو نظرنا للحالة بشكلٍ مُعمّق، سنلحَظ تضاعُفًا كبيرًا في المعنى: فالمُفاوِض الفلسطينيّ الّذي يجرّ الإسرائيليّ إلى طاولةٍ حقيقيّة، ويطرَح عليهِ أسئلةً تتعلَّق ب"الحُقوق والشرعيّة والاعتِراف"، هو أخطَر مِن مقاتلٍ يحمِل بُندقيّة. فالمُقاتِل يُمكِن شيطَنته، أمّا المُفاوِض الّذي يُتقِن لُغة السياسة والشرعيّة الدوليّة، فهو تهديدٌ وجوديّ لسرديّة الإحتِلال.
وأيضًا، في هذه الحالَة، ثمّة مُفارَقة قاتِلة، تتمثَّل بأنَّ قتل المُفاوِض لا يُنهي التّفاوض، بل يؤبّده في شكلٍ مُستحيل. فكُلّ اغتيالٍ يخلِق قناعةً عند الطّرفِ الآخر، بأنَّ الحِوارَ مُجرَّد فخ، وأنَّ القوّةَ وحدها هي اللُّغة الّتي يفهمها العدو. وبذلك، يُكرّس القاتِل، أي إسرائيل، حلقة العُنف، الّتي يدّعي أنّهُ يُريد أن يكسِرها.
حين تقتُل إسرائيل الآخر المفاوضَ لها، فإنّها في الحقيقة تقتُل إمكانيّة الاعتراف، وتغتال فكرَة الحل. من القرون الوسطى حتى الرَّاهن الفلسطينيّ، يبدو أنَّ هذه الاستراتيجية لم تفقد صلاحيّتها. إذ يُفضَّل عند بعض القوى، ومِنها إسرائيل، بقاء الدّم جاريًا على أن تُفتح طاولة حوار قد تُغيّر موازين التاريخ والحاضِر والمُستقبَل.
نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.