نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: الجامعات الحكومية في الأطراف: أزمة تمويلية بين اقتصاديات التعليم وتجارب العالم #عاجل - تليجراف الخليج اليوم الثلاثاء الموافق 9 سبتمبر 2025 07:17 صباحاً
من منظور اقتصاديات التعليم، فإن وظيفة الجامعات لا تُقاس فقط بقدرتها على تحقيق أرباح أو تحقيق توازن مالي، بل بقدرتها على إنتاج المعرفة وتوليد رأس المال البشري وتعزيز التنمية الإقليمية. هذه المنافع تُعد من "السلع العامة” أو على الأقل من "السلع ذات العائد الاجتماعي المرتفع”، ما يجعل تدخل الدولة في تمويلها ضرورة لا خيارًا. غير أن الجامعات الحكومية في الأطراف وُضعت، من حيث الواقع، أمام معادلة اقتصادية غير متوازنة: رسوم دراسية منخفضة تُفرض لاعتبارات اجتماعية، في مقابل كلف تشغيلية متزايدة، مع التزامات مالية لا تختلف عن التزامات أي منشأة تجارية.
تُضاف إلى ذلك ظاهرة فتح بعض التخصصات والبرامج استجابة لاحتياجات المجتمع المحلي، مثل برامج تعليمية أو مهنية لا تحقق إقبالًا واسعًا ولا تدر عائدًا ماليًا يغطي تكلفتها. هذا التوسع الأفقي في البرامج يعكس الالتزام بوظيفة مجتمعية نبيلة، لكنه اقتصاديًا يؤدي إلى زيادة الأعباء من دون مقابل مالي. كما أن هذه الجامعات تعاني من محدودية في قدرتها على جذب طلبة عرب وأجانب بسبب بعدها الجغرافي عن العاصمة والمراكز الاقتصادية، فتخسر بذلك مصدرًا مهمًا من مصادر الدخل التي تعتمد عليه الجامعات المركزية.
أما من ناحية الموارد البشرية، فإن الجامعات الحكومية في الأطراف محكومة بقوانين الخدمة الدائمة التي تجعل الأكاديميين والموظفين بعد تثبيتهم جزءًا من الموازنة بشكل ثابت ومستمر، بخلاف الجامعات الخاصة التي تستطيع التكيف مع حجم الطلب من خلال عقود محددة المدة. هذا الوضع يجعل بند الرواتب والتعويضات أكبر عبء مالي على الجامعات الحكومية، ويحول دون أي مرونة في إعادة الهيكلة أو تخفيض النفقات. ومع بلوغ أعداد متزايدة من الموظفين سن التقاعد، تتضاعف الالتزامات عبر مكافآت نهاية الخدمة والتأمين الصحي، لتجد الجامعات نفسها أمام موازنة مثقلة بالتكاليف الثابتة لا يمكن تخفيضها أو تجاوزها.
الأمر يزداد تعقيدًا حينما تُلزم هذه الجامعات بدفع ضرائب ورسوم وضمان اجتماعي وفواتير طاقة ومياه، بينما تتأخر الدولة في دفع مستحقاتها المالية للجامعات نفسها. النتيجة الحتمية هي اللجوء إلى البنوك للحصول على قروض قصيرة الأجل، ما يضيف عبئًا جديدًا في صورة فوائد مصرفية تستنزف ما تبقى من ميزانياتها. هذه الحلقة المفرغة تُظهر بوضوح أن المشكلة ليست في إدارة الجامعة، بل في بنية التمويل العام التي لم تضع اعتبارًا لطبيعة هذه المؤسسات كخدمة وطنية لا كشركة تجارية.
من زاوية المقارنة الدولية، نجد أن العديد من الدول واجهت أزمات مشابهة ولكنها تبنت نماذج أكثر استدامة. ففي تركيا مثلًا، جرى دعم الجامعات الإقليمية عبر مخصصات سنوية مباشرة من الموازنة العامة، مع تشجيعها في الوقت ذاته على فتح شراكات مع القطاع الخاص المحلي لتغطية بعض التكاليف. وفي ماليزيا، اتجهت الحكومة إلى ما يُعرف بتمويل "ثلاثي الأذرع”، حيث تشترك الدولة والقطاع الخاص والطلبة في تغطية نفقات الجامعات، مع ضمان أن حصة الدولة تبقى هي الأكبر لتأمين العدالة التعليمية. أما في الاتحاد الأوروبي، فقد طُوّرت آليات "التمويل التنافسي”، حيث تحصل الجامعات على جزء من مخصصاتها وفق مؤشرات أداء، لكن يظل هناك خط تمويل أساسي ثابت يغطي النفقات التشغيلية، إدراكًا أن الجامعة لا يمكن أن تُدار بمنطق السوق فقط.
هذه التجارب تكشف أن الرهان على القيادات الفردية أو إدارات جديدة لتجاوز الأزمة هو رهان خاسر ما لم يتغير الإطار الهيكلي للتمويل. فالقضية ليست مسألة كفاءة شخصية أو قدرة على الإلهام، بل هي مسألة اقتصادية بحتة. الإدارة الأكثر كفاءة قد تحسن إدارة العجز، لكنها لن تقضي عليه طالما بقيت الفجوة قائمة بين الإيرادات الثابتة والالتزامات المتنامية.
الحل الواقعي والاقتصادي يتمثل في إدماج هذه الجامعات ضمن سياسة تمويل عام مستدام، تقوم على تخصيص دعم مالي ثابت سنويًا يضمن لها تغطية نفقاتها الأساسية، مع تشجيعها على تنويع مصادر دخلها عبر الشراكات البحثية والتدريبية والاستثمار في مشاريع صغيرة مرتبطة ببيئتها المحلية. كما يجب إعادة النظر في سياسات فتح البرامج الجديدة لتخضع لدراسة جدوى اقتصادية متوازنة، بحيث تجمع بين خدمة المجتمع المحلي والاستدامة المالية.
إن الاستمرار في ترك الجامعات الحكومية في الأطراف تدور في حلقة مفرغة من العجز والديون، سيقود إلى تآكل دورها الأكاديمي وانحسار وظيفتها التنموية. والاعتقاد بأن شخصًا ما أو إدارة بعينها قادرة على قلب المعادلة بمجرد حماس أو خطاب ملهم هو تصور بعيد عن الواقع الاقتصادي. هذه الجامعات لا تحتاج إلى بطولات فردية، بل إلى قرار استراتيجي يعيد تعريف وظيفتها ومكانتها ضمن منظومة التعليم العالي ويؤسس لتمويل عام مستدام يضمن استمرارها.
إن مستقبل هذه الجامعات ليس قضية مالية فحسب، بل قضية تنموية ووطنية. فكل تراجع في أدائها يعني زيادة الفجوة بين المركز والأطراف، وإضعاف قدرة المجتمع على توليد رأس مال بشري مؤهل. من هنا، يصبح التدخل المالي المستدام ضرورة لا بديل عنها، إذا ما أرادت الدولة أن تحافظ على العدالة التعليمية والتنمية المتوازنه.
نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.