اختيار رؤساء الجامعات بين الطبيعيات والانسانيات - تليجراف الخليج

نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: اختيار رؤساء الجامعات بين الطبيعيات والانسانيات - تليجراف الخليج اليوم الجمعة الموافق 5 سبتمبر 2025 08:29 مساءً

عملية اختيار المسؤول الأول لأي مؤسسة، من اهم واخطر المهام واصعبها. لأن القائد الأول في أي مؤسسة سواء اكانت جامعة او وزارة او هيئة هو الذي يعطيها صورتها وتوجهها وتقدمها. وأي مؤسسة (حتى حضارة او دولة) يمكن توهينها وتدميرها بطبيعة قيادتها. والتاريخ ينبئنا بحالات كثيرة في هذا الشأن. لهذا كان من الأهمية حسن الاختيار. ولا فرق في النتيجة بحسن النية او سوئها. هناك حالات من هدم الدول لم تكن نتيجة خيانة قائد، ولكن لطبيعة قيادته وإدارته، خاصة تلك التي تفتقر الى الرؤية العميقة والاستشراف والحنكة والحكمة والابداع، والنظر التجاوزي للواقع الظاهري.

وحيث تجري حاليا عمليات التقدم لموقعي رئيسي جامعتين (اليرموك والطفيلة)، وعملية تصفية الطلبات، فقد كتب العديد من الفضلاء عن عملية اختيار رؤساء الجامعات واحسنوا في ذلك، فالأمر يستحق الاهتمام والرأي والمشورة. وهنا نضيف بعض الملاحظات على عملية الاختيار، وما خبرناه سابقا عنها. وابتداء إن كاتب هذه الملاحظات ليست لديه مصلحة شخصية في عملية الاختيار حيث لم (ولن) يتقدم لأي من الموقعين، او غيرهما بمشيئة الله تعالى.

في حالات سابقة كان هناك تحيز نحو أصحاب التخصصات التي تسمى علمية وما يلحق بها، واستبعاد ذوي التخصصات الإنسانية وملحقاتها. وكذلك الاعلاء من شأن النشر العلمي وكثرته العددية. وهذه أمور غير ذات علاقة مباشرة او حاسمة بالقيادة الإنسانية. إن القيادة شأن انساني، قد يتأثر بالخلفية العلمية او التخصص، والسمات الشخصية، ولكن التخصص ليس هو المعيار . وليس بالضرورة ان أصحاب تخصص ما هم الأفضل للقيادة، بناء على طبيعة تخصصهم، او كثرة انتاجهم العلمي.

كما هو معروف عن النفس الإنسانية، من وجهة نظر نفسية اجتماعية، أن الانسان ينظر الى الآخرين من خلال رؤية لأبرز الصفات او السمات في شخصه. مثلا إذا كان طويلا، ينظر من حيث الطول، واذا كان متعلما ينظر للآخرين من حيث التعليم. وكذلك المهن تؤثر على أصحابها، فإذا كانت المهنة او التخصص محددا ضيقا، فإنه يلقي بظلاله على تفكير وتعامل صاحبه. وخبرنا أشخاصا علماء وباحثين، ولكن يصعب التعامل معهم، حيث يتكون لديهم وجهات نظر محددة، وباتجاه واحد، وإذا قادوا المؤسسات، اخذوها بشخصياتهم وقدراتهم، وثم نبحث عن اين الخلل؟

يوجد مثل اجنبي يقول "من يحمل مطرقة فإن كل ما يراه مسامير"! لذلك فإن المهن تؤثر على أصحابها، في تعاملهم واهتمامهم، وتركيزهم على قضايا محددة. وإذا كانت الإدارات الجامعية من لون واحد، ومن أصحاب منظور معرفي فكري واحد، فهذا بالطبع سوف يؤثر على مسيرة الجامعة وعملها.

مثلا ساد في الفكر الإنساني لفترة طويلة ما يسمي بالمنظور الطبي، حيث يتم رؤية معظم الظواهر والمشكلات او السلوكيات على انها أمراض. فمن يخالف الأعراف هو مريض، ومن يرتكب سلوكا ما، يعتبر مريضا، وبالتالي يخضع للسلطة الطبية التي تتعامل مع حالته. هذه الرؤية طرأ عليها تغير في العالم الى حد ما، ولكنها لا تزال تلقي بظلالها، وفي اعماقها تبرئة المؤسسة او البناء الاجتماعي من المشكلات التي يهيئ الظروف لها، وتلقي باللوم والمسؤولية على الضحايا او المتأثرين بالنظام السائد. ليس ذما لأي تخصص ولكن الاحتراز من تركيز إدارات الجامعات على ألوان تخصصية محددة، مع كامل التقدير والاحترام لذوات أصحابها.

إن استبعاد التخصصات الإنسانية او الاجتماعية، والتقليل من شأنها، في عمليات المفاضلة والتي كانت تحصل، او الاعلاء من شأن أي تخصص حتى في نفس المجال المعرفي، ليس له سند من الفكر الإداري والقيادي والتجربة الإنسانية. وليس الهدف من هذا المقال ان يجري تعيين رئيس من الكليات الإنسانية او الاجتماعية ولكن اختيار الاصلح دون تحيز او اجتراح معايير لا أساس لها من المعقولية، وكانت نتائجها ما نراه في جامعاتنا في العقود الأخيرة.

وَاذْكُرْ هُنَا بِكَلِمَةِ اَلسَّيِّدَةِ Drew Faust، اَلَّتِي كَانَتْ وَقْتَهَا رَئِيسَةُ جَامِعَةِ هَارْفَارْدْ، وَهِيَ تَشْغَلُ كُرْسِيَّ لِنْكُولِنْ فِي اَلتَّارِيخِ! ! ! نَعِمَ فِي اَلتَّارِيخِ، وَاَلَّتِي صَنَّفَتْ عَامَ 2014 أَنَّهَا رَقْمُ 33 فِي اَلشَّخْصِيَّاتِ اَلْأَقْوَى تَأْثِيرًا فِي اَلْعَالَمِ! ! وَيَا حَبَّذَا لِمَنْ يَرْغَب اَلِاطِّلَاعُ عَلَى كَلِمَتِهَا اَلَّتِي لَقَّتْهَا فِي (24/ 3/ 2016) فِي اَلْأَكَادِيمِيَّةِ اَلْأَمْرِيكِيَّةِ اَلْعَسْكَرِيَّةِ اَلشَّهِيرَةِ- وِسْت بُويِنْتْ. وَكَانَتْ بِعُنْوَانٍ يُمْكِنُ تَرْجَمَتَهُ:

إِنَّ تَكَوُّنَ " مُتَحَدِّثًا بِالْكَلِمَاتِ عَامِلاً بِالْأَفْعَالِ ": اَلْأَدَبُ وَالْقِيَادَةُ.

نَعِمَ اَلْأَدَبُ وَالْقِيَادَةُ! وَهِيَ تُبَدِّدُ مِثْل هَذِهِ اَلتَّصَوُّرَاتِ اَلْمَغْلُوطَةِ عَنْ اَلْآدَابِ وَالْعُلُومِ اَلْإِنْسَانِيَّةِ. وَأَشَارَتْ فِي كَلِمَتِهَا إِلَى دِرَاسَةٍ لِلْمَجْلِسِ اَلْبِرِيطَانِيِّ فَحْوَاهَا أَنَّ مَا يَزِيدُ عَنْ نِصْفِ اَلْقِيَادَاتِ فِي اَلْعَالَمِ هُمْ مِنْ اَلْعُلُومِ اَلْإِنْسَانِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ. وَأَنَّ خَمْسَةَ وَسَبْعِينَ فِي اَلْمِائَةِ مِنْ قَادَةِ اَلْأَعْمَالِ يَقُولُونَ إِنَّ أَهَمَّ اَلْمَهَارَاتِ فِي عَمَلِهِمْ هِيَ اَلْقُدْرَةُ عَلَى اَلتَّحْلِيلِ، وَالتَّوَاصُلُ، وَالْكِتَابَةُ، وَهِيَ مَهَارَاتٌ فِي اَلْقَلْبِ مِنْ اَلْإِنْسَانِيَّاتِ (عَلَى حَدِّ قَوْلِهَا ) .

وفي دراسة حديثة (AS, 2024) عن القيادات الجامعية وصفت ابرز سمات الرؤساء الفعالين، حيث "يمتلك رؤساء الجامعات الفعالون صفات رئيسية تمكنهم من قيادة في التعليم العالي بفعالية. إنهم يبنون الثقة من خلال الموثوقية والتواصل المفتوح، ويشركون أصحاب المصلحة، ويظهرون المرونة في مواءمة القيم مع مهمة مؤسستهم. التواصل القوي والذكاء العاطفي ضروريان للتعبير عن الرؤية وإشراك الفرق. تستلزم القيادة الشجاعة اتخاذ قرارات صعبة، بينما تضمن مهارات البيانات وإدارة الموارد القدرة على التكيف والاستقرار المالي.".

في مقال قصير نشرناه سابقا في جريدة الغد، بعنوان (ما الذي يشغل اكثر من 1000 رئيس جامعة)، حيث ذكرنا فيه خلاصة نتائج استطلاعات لآلاف رؤساء الجامعات والكليات في الولايات المتحدة الامريكية، وما ابرز ما يشغلهم، وذكرنا في العنوان (1000)، لسحر هذا الرقم في ثقافتنا الأردنية والذي يعني اكثر من قيمته العددية.

وقد تبين ان اهم ثلاث قضايا تشغل الرؤساء كانت: التمويل وجمع التبرعات، الموازنات، العلاقات مع المجتمع (المحلي)، والتخطيط الاستراتيجي. وثم قضايا الطلبة، وحديثا انخفاض الإقبال على التعليم الجامعي، والمنافسة من مؤسسات التدريب المهني وغيرها، وهذه لها حديث آخر. هذه هي القضايا الكبرى التي تحظى باهتمام رؤساء الجامعات في امريكا والوضع كما هو منذ العام 2001، كما تشير الدراسات، وتبعا للدراسة فإن هذه القضايا التي يجد الرؤساء فيها المتعة الاكثر.

من الانصاف القول ان الوضع مختلف بين المجتمعات المتقدمة والنامية، والقضايا الكبرى التي تشغل رؤساء الجامعات في الغرب، تجد صداها في المجتمع العام الذي لديه تقاليد راسخة في دعم الجامعات وفي التبرع للصالح العام بصورة فريدة، إضافة الى ان عملية اختيار الرؤساء مختلفة تماما عما يجري في ديارنا العامرة.

ولكن ما الذي يشغل (أو ينشغل به) رؤساء الجامعات في بلادنا. توجد قضايا حقيقية وكبرى تشغل رؤساء الجامعات في بلادنا، ومنها التمويل وتناقص الدعم الحكومي والتزايد المستمر في اعداد الطلبة، وغيرها من التحديات. وكذلك تشغلهم البيروقراطية المستعصية على الترويض والتي تلتهم اوقاتهم وجهودهم (الاجتماعات المطولة، البريد (وما ادراك ما هو)، والاعمال الإجرائية الكثيرة والتي تطوف معظم إدارات الجامعات حتى تصل الى قرار؟؟). ويا للهول، عندما يأتي احدهم إلى حرم الرئاسة، ويجد على القوم السكينة والهدوء الحذر، وكأن على رؤوسهم الطير، وفي حالة استنفار وطوارئ! تسأل ما الخطب؟ الجواب إن المسؤول الأول في خلوة مع البريد؟ يوقع البريد؟؟

ماذا يبقى للإدارات الجامعية من وقت للتفكير والتخطيط واستشراف المستقبل وتشكيل النظر الكلي في الأمور؟ إداريو الجامعات)منهكون) فعلا بهذا الزخم والكم الهائل من المعاملات التي يمكن التقليل منها، لو تحرر الزملاء من اوضار البيروقراطية الخانقة وتقاليدها المستحكمة، وتوارث التعقيد من جامعة الى أخرى. ولكن يقال أليس هذا هو اختيارهم ومتعتهم؟؟؟ أليس هذه مظاهر سلطتهم؟

إن التحديات الكبيرة التي تواجه التعليم العالي، لا يمكن مواجهتها والجامعات لا تزال تدار من قبل قيادات تحكمها وتوجهها نظم إدارية وتعقيدات لا مبرر لها، تعيق العمل وارتقاءه. وبعقليات إدارية وليست قيادية. الجامعات بحاجة الى قيادات ذات رؤى تستشرف المستقبل وتحسن إدارة الناس والموارد، والمؤسسات على نحو عام. لا بد أن يتحرر القادة من المهام التي يمكن ان يقوم بها أي موظف في الجامعة، ولا بد من توطين المهام في الأقسام والكليات، وان لا يصل الى رئاسة الجامعات الا القضايا الهامة جدا. كم سمعنا من رؤساء جامعات يقولون (لا أريد أن عمل سابقة)؟؟ هل يمكن تطوير وابداع دون عمل سوابق تخالف المألوف، وتأتي بأفضل منه.

الجامعات تستحق بل هي بحاجة ماسة إلى قيادات مهيوبة، ومؤهلة، وذات رؤية، وابداع، وتحمل من الهموم والتطلعات ما هو بحجم التعليم العالي والوطن على نحو عام. مطلوب قياديين وليس مسيري اعمال او إداريين.

وختاما، نأمل من مجلس التعليم العالي وبعد اختيار الرئيسين ان يشترط على كل منهما، الا يدخل في أوهام العالمية والتصنيفات، والمقاييس الكمية للنشر، على حساب البحث العلمي الحقيقي وخدمة المجتمع المحلي. وكذلك إن امكن ان تتوقف الجامعات عن اهدار مواردها وجهود اداراتها واساتذتها في اعمال ورقية واجرائية هائلة، في سبيل التصنيفات والنشر العالمي الذي بدأ عواره في الظهور. العالمية تبدأ من الأوطان، والمحلية هي الأولى من عالمية لا تأبه بعالمنا. والله من وراء القصد. ِ

نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.