هآرتس: إسرائيل تستعد لاحتلال غزة، لكنها يمكن أن تكتشف أن غزة هي التي احتلتها - تليجراف الخليج

نقدم لكم زوارنا الكرام أهم وآخر المستجدات كما وردت في المقال التالي: هآرتس: إسرائيل تستعد لاحتلال غزة، لكنها يمكن أن تكتشف أن غزة هي التي احتلتها - تليجراف الخليج اليوم الجمعة الموافق 5 سبتمبر 2025 06:54 مساءً

إن الخلاف الحاد بين رئيس هيئة الأركان ورئيس الحكومة بشأن احتلال مدينة غزة، ثم احتلال القطاع بأكمله، يتركّز في مسألة التكلفة والعائد الذي يمكن أن تجنيه إسرائيل من هذا الاحتلال؛ هل سيؤدي الاحتلال الكامل إلى تحرير الأسرى؟ وهل سيقوّض تماماً سيطرة "حماس" على القطاع؟ وما هو الثمن الذي سندفعه من حياة الجنود لقاء لذلك؟ غير أنّه إزاء الاستعدادات المكثفة، من أجل تجنيد قوات الاحتياط، وتجهيز القوات والنشاطات الميدانية، فإن الخلاف يفقد أهميته لأنه حُسم عملياً، ويمكن القول إن قرار فرض حكم عسكري على غزة بات في طريقه إلى التنفيذ.

وإذا لم يطرأ تغيير في اللحظة الأخيرة – كَتَرَاجُعٍ في الموقف الأميركي – فمن المتوقَع أن يبدأ "الجيش الإسرائيلي" خلال أسابيع في العمل في القطاع كقوة سلطة مدنية، مع ما يحمله ذلك من تبعات اقتصادية وعسكرية وسياسية وقانونية. من الناحية الاقتصادية، تطرّق هذا الأسبوع الحاكمان السابقان لبنك إسرائيل، البروفسور كارني فلوج والبروفسور يعقوب فرينكل، في مقال نُشر على موقع "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، إلى تكاليف مباشرة وجارية تُقدَّر بنحو 30 مليار شيكل سنوياً: منها 10 مليارات لصيانة الخدمات كالصحة والمياه والكهرباء وجمع النفايات وتوفير الغذاء والوقود، ونحو 20 ملياراً لتمويل صيانة "الجيش" ونشاطاته.

غير أنّ هذه الأرقام لا تشمل النفقات لمرة واحدة، ولا الأضرار المتوقَعة للاقتصاد جرّاء الاستدعاء المطوَّل لعشرات آلاف جنود الاحتياط، أو العقوبات الاقتصادية التي يمكن أن تُفرض على إسرائيل وتؤثر في حجم تجارتها مع دول العالم. وعلى الرغم من أن هذه الأرقام ليست ثابتة، فإن هناك تقديرات أُخرى تتحدث عن تكاليف "أقل كثيراً"، بحسب ما يشير البروفيسور كوبي ميخائيل ويوسي كوبرفاسر من دون تفصيل في مقال نشراه في مطلع آب/أغسطس في موقع "معهد دراسات الأمن القومي".

لكن هذه التقديرات، سواء العالية أو المنخفضة، تفتقر إلى عنصر أساسي؛ فهي لا تعرف حجم المسؤولية المدنية الذي ستتحمله إسرائيل و"الجيش" لإدارة الاحتلال. على سبيل المثال: هل ستعيد إسرائيل تأهيل شبكة المياه والمضخات وأنابيب التوزيع أم ستكتفي بتسيير صهاريج مياه؟ كيف ستُنظم إمدادات الوقود؟ مَن سيعيد بناء شبكة الكهرباء المحلية وفي أي المناطق؟ وهل ستصل هذه الشبكة إلى مراكز التجمع السكاني أم سيُكتفى في المرحلة الأولى بالمولدات؟ أكدت مصادر عسكرية إسرائيلية لصحيفة "هآرتس" أنه حتى خطة عمل منظّمة لتوزيع الغذاء لم تُعتمد بعد، وحذّرت من أنّه على الرغم من الإخفاق المدوّي والمميت الذي ما زال يتكرر في مراكز توزيع المساعدات الإنسانية، فإن "هناك حاجة إلى تفكير جديد وخطة عمل واقعية لم توضع بعد".

وأوضح مصدر آخَر أن "صعوبة وضْع خطة عمل تنبع جزئياً من عدم معرفة عدد السكان الذين سيغادرون شمال القطاع، وما السياسة التي ستُعتمد إزاء مئات الآلاف الذين سيبقون في منازلهم ويرفضون الإخلاء." والتقدير الحالي هو أنّ نصف السكان على الأقل – نحو نصف مليون إنسان– سيبقون في المنطقة التي يُفترض أن يجلي "الجيش" منها عناصر "حماس"، أي في ساحة قتال نشيطة ودامية، حيث من المتوقَع أن يكون عدد الضحايا المدنيين أعلى كثيراً من المعدَل الحالي البالغ نحو 80 قتيلاً يومياً.

وأوضح ضابط سابق رفيع المستوى خدم في مجال تنسيق أعمال الحكومة في المناطق أنه إلى جانب مسألة التكاليف والقوى البشرية اللازمة لإدارة الاحتلال، فمن المهم التفكير في الحياة اليومية لفهم حجم النشاط والمخاطر على جنود "الجيش"، فكل قافلة طعام أو معدات طبية ستحتاج إلى مرافقة عسكرية منذ خروجها من إسرائيل وحتى موقع التخزين أو التوزيع. أمّا اليوم، فهذه القوافل تدخل غزة بلا مرافقة، وإذا نُهبت في الطريق، فلن يكترث "الجيش"؛ إذ يكفيه القول إن المساعدات دخلت لتُسجَّل في الإحصاءات اليومية، من دون ضمان وصولها إلى المستحقين.

وأضاف مصدر آخَر: "لكن ما إن تصبح قوةَ احتلال رسمية، فستكون ملزَماً بضمان وصول الغذاء والدواء وسائر المعدات إلى وجهتها، ولن يعود ممكناً إلقاء اللوم على ’حماس‘ أو العصابات في حال النهب؛ فأنت المسؤول. تخيَّل كم من الجنود سينشغلون بلوجستيات لا علاقة لها بأمن إسرائيل أو قتال ’حماس‘، وكم من الضباط الإداريين الذين سيُضطرون إلى التعامل مع آلاف الطلبات من السكان، سواء للعلاج داخل إسرائيل كما كان قبل الحرب، أو للانتقال لتلقّي العلاج في مصر أو الأردن."

حتى إذا تنصّل "الجيش" من مسؤوليته عن السكان الذين سيبقون في بيوتهم شمال القطاع، فإنه سيظل ملزَماً بالتعامل مع أكثر من مليون ونصف إنسان، وبموجب القانون الدولي عليه أن يوفّر لهم مستوى معيشة لائقاً لا يقل عما كان قائماً قبل الاحتلال. ومن المشكوك فيه أن تلتزم إسرائيل كلَّ ما تنص عليه المعاهدات الدولية؛ فإن 58 عاماً من الاحتلال في الضفة الغربية تكشف الفجوة بين تلك المعاهدات والممارسة الفعلية، وتُبرز اقتراب سلوك إسرائيل من تعريفها كدولة ترتكب جرائم حرب. لكن حتى مقارنة إدارة الاحتلال في الضفة بما يمكن أن يُتوقع في غزة ليست واردة؛ ففي الضفة، منذ اليوم الأول للاحتلال سنة 1967، استطاعت إسرائيل الاعتماد على هياكل محلية كالبلديات والمخاتير والمستشفيات والوزارات التي تولّت إدارة الحياة اليومية بالتعاون مع الإدارة العسكرية، أمّا في غزة اليوم، فلا يوجد شيء من هذا، وسيُضطر "الجيش" إلى الانخراط في الأمن اليومي داخل مراكز سكانية ما زال يتواجد فيها مقاتلو "حماس"، أو ستنشأ فيها تنظيمات مسلحة جديدة لا تحتاج إلى صواريخ حين يكون "العدو" ملاصقاً لها. ستصبح غزة أشبه ببالون؛ الضغط في مركزه ينفخ أطرافه، وتهجير مئات الآلاف من حيّز إلى آخَر ينقل معهم أيضاً المسلَحين ونشاطهم.

احتلال غزة لن يحدث في مختبر معزول حيث تقرر إسرائيل وحدها قواعد اللعبة. صحيح أن احتلال الضفة استفاد لعقود من لامبالاة دولية اكتفت بانتقادات وتوبيخ، من دون فرض عقوبات جدية، لكن هذه المرة يمكن أن يتسبب تجاهُل القانون الدولي بعواقب عملية، وخصوصاً إذا رافقه قرار بضم أجزاء من الضفة. فقد فُرضت فعلاً سلسلة من العقوبات "الرسمية" و"غير الرسمية" على إسرائيل، منها وقف استثمارات مؤسسات دولية، ومقاطعة باحثين وأبحاث، أو حظر سلاح جزئي كالقرار التاريخي للحكومة الألمانية الذي بدأ يؤثر فعلاً في القدرات العملياتية "للجيش الإسرائيلي". كما ينبغي الانتباه إلى التحذيرات الصادرة عن دول عربية لديها اتفاقيات سلام مع إسرائيل، كالإمارات ومصر والأردن. أبوظبي، التي وقّعت اتفاق التطبيع في ولاية ترامب الأولى، برّرت توقيعها آنذاك بقدرتها على منع ضم الضفة، وهي الدولة العربية الوحيدة التي أعلنت استعدادها للمشاركة في قوة متعددة الجنسيات تدير القطاع، لكن شرْطَ أن تعمل تحت سلطة فلسطينية "ذات صلاحيات تنفّذ إصلاحات جذرية في بنيتها".

إن التصريحات هذا الأسبوع التي صرحتها لانا نسيبة، مساعدة وزير الخارجية الإماراتي والمندوبة السابقة لدى الأمم المتحدة لأعوام، والتي حذّرت فيها من أنّ ضم الضفة هو "خط أحمر" يقوّض "اتفاقات أبراهام" ويزعزع فرص السلام، لا تتضمن تهديداً مباشراً بقطع العلاقات، لكنها تشير إلى هذا الاتجاه. كذلك تدهورت العلاقات مع مصر، التي عززت قواتها في سيناء وتحافظ على مستوى غير مسبوق من الاستنفار الدائم على طول الحدود مع غزة. صحيح أنها وقّعت مع إسرائيل مؤخراً اتفاقاً طويل الأمد لتوريد الغاز، لكن من الجدير التذكير به أن اتفاقاً مشابهاً في عهد مبارك غذّى حركات الاحتجاج التي فجّرت ثورة الربيع العربي وأطاحت به سنة 2011. ويمكن التقدير أن اتفاق السلام سيبقى قائماً على الرغم من الضغوط الداخلية، لكن الوضع يمكن أن يتدهور إذا تبيّن أن احتلال غزة سيؤدي إلى اختراق الحدود وتدفُّق عشرات أو مئات الآلاف من الغزيين إلى مصر.

في ميزان اعتبارات الحكومة الإسرائيلية، يعلو السعي وراء "إسقاط ’حماس‘" فوق أي اعتبار آخَر، حتى لو كان الثمن اقتصادياً وسياسياً باهظاً. ويمكن أن يكون هذا الهدف بحد ذاته مشروعاً وضرورياً، لكن إمكان تحقيقه يثير شكوكاً كبيرة. وفي مواجهة التوقع بأن الاحتلال المباشر سيؤدي إلى القضاء على المقاومة المسلحة، فهناك تاريخ الاحتلال الإسرائيلي، وتاريخ احتلالات أُخرى تؤكد أن السيطرة المباشرة ليست ضماناً لإحباط أو القضاء على فصائل المقاومة؛ فالانتفاضتان اللتان اندلعتا في المناطق الفلسطينية المحتلة في ظل الحكْم الإسرائيلي، والصراع المستمر مع "المقاومة" قبلهما وبعدهما، ونمو حزب الله خلال 18 سنة منذ حرب لبنان الأولى، كلها أدلة دامغة على بطلان نظرية السيطرة المباشرة كدرع ضد "المقاومة". كذلك الأمر بالنسبة إلى الاحتلال الأميركي للعراق الذي فشل في القضاء على "المقاومة" المحلية، أو في أفغانستان التي عادت إلى حكم طالبان. الفارق أن تلك الدول كانت لديها حكومات قائمة تتحمل المسؤولية المدنية، وتحظى بتمويل مئات المليارات من الولايات المتحدة، وتطوّر مع الزمن موارد اقتصادية وعسكرية محلية.

والسؤال الآن هو: كم سنة تستطيع إسرائيل أن تتحمّل عبء غزة قبل أن تدرك أن غزة هي التي تضمّ إسرائيل إليها، وليس العكس؟

* تسفي برئيل


نشكركم على القراءة، ونتطلع لمشاركتكم في مقالاتنا القادمة للحصول على أحدث الأخبار والمستجدات.